ماذا يحدث في غزّة؟
إعداد: سليم النجار- وداد أبوشنب
” مقدِّمة”
مفردة “السؤال” وحدها تحيل إلى الحرية المطلقة في تقليب الأفكار على وجوهها، ربّما هدمها من الأساس والبناء على أنقاضها، كما أنَّها من أسس مواجهة المجازر وحرب الإبادة التي يتعرّض لها الشعب الفلسطيني في غزّة والضّفّة، من قِبَل الاحتلال الاسرائيلي٠
في هذا الملف نلتقي بعدد من الكُتّاب العرب الذين يُقدِّمون لنا رؤاهم حول ماذا يحدث في غزّة؟
وما يستدعي الدرس والتمحيص والنقاش والجدال والنقد، لأنّ الأشياء تحيا بالدرس وإعادة الفهم، وتموت بالحفظ والتلقين٠
الروائي والناقد #علي_فضيل_العربي من الجزائر يكتب لنا من زاويته “ماذا يحدث غزة”؟
يسألونك عن غزّة الأبيّة؟
علي فضيل العربي – روائي وناقد جزائري
1-أكذوبة الدفاع عن النفس وازدواجية المعايير
حسنا، لنفرض أنّ حركة #حماس معتديّة، وأنّ الغزاويين ظالمون ومعتدون وإرهابيّون ودواعش متوحّشون، وأنّ الصهاينة الذين يدّعون الساميّة – وهي منهم براء كبراءة يوسف من كيد امرأة فرعون – ضحايا ومظلومون. هل تبيح لهم ساميتهم المزعومة قصف بيوت الآمنين بآلاف الأطنان من المتفجّرات الحارقة والسامة، ويُقدمون على #قتل #الأطفال و #النساء والمرضى والشيوخ مع سبق الإصرار والترصّد، بحجة الدفاع عن النفس؟
لم نشهد منذ الحربين العالميتين إجراما جنونيا وكراهيّة ساديّة كالذي تمارسه عصابات بني صهيون على الفلسطينيين العزل في أرض غزة. تحت شعار زائف (الدفاع عن النفس). لقد أخرج الكيان الصهيوني الغاصب مخزونه كلّه من الحقد والإجرام والكراهيّة والساديّة، وهو مخزون فاق ما أخرجته النازيّة والفاشيّة وجحافل الاستعمار الحديث.
وممّا زاد الأمر عجبا، أن المؤسسات السياسيّة الغربيّة، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكيّة وفرنسا وبريطانيا وألمانيا، صدّقت أكذوبة (الدفاع عن النفس) وهي ماضية في الترويج لها إعلاميا، وسياسيّا ودينيّا وثقافيّا. وهل الدفاع على النفس يقتضي هدم البيوت على رؤوس أهلها؟
عجبا ثم عجبا، كيف قُلبت الموازين. يغتصب الصهيوني المعتدي أرض الفلسطيني المعتدى عليه، وعندما يقاوم دفاعا عن حقّه يُوصم بالإرهاب والعنف. أمّا هذا الصهيوني الفاشي القادم من ربوع الأرض؛ من شرقها أو غربها أو شمالها أو جنوبها مغتصبا ومعتديا يصبح بين عشيّة وضحاها صاحب حق ووجود في أرض لا يملك فيه مقدار قطمير.
لقد زرعت الفلسفة الاستعماريّة الغربيّة الكيان الصهيوني في قلب فلسطين، منذ وعد بلفور المشؤوم، وساندته بالمال والسلاح والبشر، وهي تعلم أن أسطورة أرض الميعاد وخرافة الدولة اليهوديّة الباحثة عن العظام النخرة، وعن وجود لا وجود له، وعن بناء دولة يهوديّة، عاصمتها القدس الشرف، ما هي إلاّ أحلام زائفة وسراب بذي قيعة يحسبه الظمآن ماء.
أيّ عقل يصدّق ما يرتكبه الكيان الصهيوني من جرائم إنسانيّة فظيعة؟ وكأنّ هؤلاء الطيّارين الذين يقصفون أهل غزة وأطفالها الرضع، وحوش ضاريّة – وإن كانت بعض الوحوش الضاريّة رحيمة بفرائسها – وجدت في أفعالها الشنيعة ضالتها الساديّة.
والعجيب العجاب، والأدهى من الدواهي كلّها، أن يصمّ الكيان سمعه عن القرارات الأمميّة كلّها، والنداءات الإنسانيّة جلّها، لوقف محرقته النازيّة والفاشيّة التي أحرقت البشر والشجر والحجر، إنّه يتحدّى العالم كلّه، وهو ماض في توسيع محرقته.
2- #جرائم_الصهاينة عبر التاريخ وأخلاقيات المسلمين
وكم سمعت – بكل مرارة وأسى – صرخات الأطفال واستغاثات النساء نداءات أحرار العالم، وأنّات الجرحى والمصابين. وكم عرضت وسائل الإعلام من صوّر تراجيديّة لآلاف البيوت التي تحوّلت إلى ركام فوق رؤوس ساكنيها أو اللاجئين والمحتمين بها، وكم هي صور الضحايا الأبرياء المكدّسين والمبعثرين على قارعات الطرق، ولكنّ ساسة العدو وقادة العدوان وأصحاب الشأن ومعشر العرب والعربان، كأنّهم يشاهدون مسرحيّة، بطلها قاتل محترف، غشوم لا يعبأ بآلام ضحاياه ولا يميّز بين الجنين والرضيع، وقتلاه أبرياء لا ذنب لهم سوى وجودهم في مكان القصف وزمانه.
قال كبيرهم ووزير دفاع الصهاينة بأنّ الغزاويين حيوانات ووحوش، ويجب معاملتهم على هذا الشكل، ونسيّ، أو تناسى جرائم أسلافه ومجازرهم الفاشستية عبر سبعة عقود كاملة من القتل والاعتقال والتهجير القسري. لقد حوّلوا فلسطين من أرض للسلام والتعايش الإنساني بين الأديان والملل والمذاهب إلى غابة تحكمها غرائز الكراهية والتمييز العنصري والإبادة الجماعيّة والتزييف لحقائق التاريخ. لقد تناسى اليهود وأنكروا وجحدوا – إلاّ قلّة قليلة – عيشة أسلافهم في المشرق والأندلس، أيّام الخلافة الإسلاميّة. فقد عاشوا في كنف السلام والأمن، لم تُنقص حقوقهم الاجتماعيّة والدينيّة، وكانوا مكوّنا من مكوّنات الرعيّة، لهم ما لها وعليهم ما عليها في السراء والضراء. لقد حماهم المسلون عند سقوط الأندلس من الهمجيّة الصليبيّة بقيادة الملكة القشتالية الزابيلا وزوجها فرديناندو الثاني ورعاية الكنيسة، حين لم يجدوا ملجأ يلجأون إليه، ففرّوا بمعيّة الموريسكيين إلى شمال إفريقيا طلبا للأمن والحماية.
ولمّا دخل الخليفة عمر بن الخطاب مدينة القدس، رسّخ مبدأ التعايش السلمي بين الأديان، فلم يهدم كنيسة أو ديرا للنصارى واليهود. فكانت الوثيقة العمريّة ضمانا لحريّة الاعتقاد وممارسة الشعائر الدينيّة، مصداقا لقوله تعالي: “لكم دينكم ولي دين “(الكافرون / 6)،” فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر” (الكهف/ 26)، “لا إكراه في الدين” (البقرة / 256). ونقض الصهاينة جزء من وعد بلفور، وعهدهم بنقض العهود لا يخفى على مؤمن أو على منصف. فقد جاء في متنه ما يلي: (تنظر حكومة صاحب الجلالة بعين العطف إلى إقامة وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، على أن يفهم جليّا أنه لن يؤتى بعمل من شأنه أن ينتقص من الحقوق المدنيّة والدينيّة التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة في فلسطين، ولا الحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في أي بلد آخر).
3-موقف الغرب الظالم
يا أيها الغرب المنافق، لا تحدثني اليوم عن حقوق الإنسان، وعن الساميّة المزعومة، وعن مجلس الأمن، ولا عن جمعيّة الأمم المتّحدةّ وعن المحكمة الجنائية الدوليّة، ولا عن الحريّة والديمقراطيّة والعدالة والإنسانيّة، فقد محقتها قنابل بني صهيون على أرض عزّة محقا.
أيّها الغرب المنافق، أخبرنا، بأيّ شريعة، وبأيّ قانون تُقصف المشافي والعيادات والمساجد والكنائس والمدارس فوق رؤوس الأبرياء؟ أليس هذا هو الجنون بعينه؟ والغريب والأغرب منه، أنّ المجرمين يزعمون انتماءهم للساميّة. إنّهم – والله – كائنات غريبة لا تنتمي للبشر إطلاقا، بل لا مكان لهم في زرائب الوحوش. وإنّ الوحش أرحم منهم بفرائسها وأشرف.
أيّها الغرب الظالم، تاريخك الأسود، المظلم، القريب منه والسحيق، ينبئ عن حقدك البغيض على حرمة الدماء البريئة. كيف ينسى أحرار العالم جرائمك الفظيعة في الأندلس ولينينغراد وهيروشيما ونكازاكي هي البوسنة والعراق وفلسطين وبلاد الأفغان؟ وهل تُطوى صفحات جرائمك في إفريقيا وآسيا وأمريكا؟ إنّ جرائمك لم تُطوَ بعد، ولن تُطوى أبدا مهما تقادم الزمن، وتعاقبت الأجيال.
أيها الغرب الظالم، الداعم لعدوان الصهاينة وطغيانهم على أهل غزة المحاصرة، الأبيّة، العصيّة. لقد انبلجت حقيقتك، وفضح أطفال غزة عوراتك، أولئك الأطفال، العطاش، الجياع، ضحايا الجنون الصهيوني ولا مبالاتك وصمتك. لا فرق بينك وبين بني صهيون، أنتم سواء، غايتكم إبادة أهل غزة أو تهجيرهم ليخلو لكم المكان، وتتمتعوا براحة البال. لكن هيهات، ثم هيهات، إنّ غزة هي عنقاء هذا الزمن. لن تموت غزة أبدا، ومهما فعلتم، لأنّ روحها تسكن السماء، كأرواح شهدائها، وستصيبكم لعنة غزّة، ستؤرقكم، ستقض مضاجعكم. كونوا على يقين، بأنّ غزّة المرويّة بدماء أبنائها؛ من الأطفال والنساء والأبطال، ستزهر أكثر ممّا كانت قبل العدوان الغاشم، ويومها ستعضون على أناملكم، إن استيقظت ضمائركم، ولانت قلوبكم، التي هي اليوم قاسيّة كالحجارة أو أشدّ قسوة.
4-غزة في عيون العرب
أمّا نحن، وما أدراك من نحن، فإنّ غزّة وكل شبر من فلسطين، أمانة في أعناقنا. هي التميمة الفاضلة التي تغلّق على صدر كلّ مولود. لم يعد الغضب كافيا، ولم تعد الاحتجاجات مجديّة، ولا بيانات المنابر السياسيّة والدينيّة تثلج الصدور. بل لا بد من مناصرة إخواننا في غزّة والصفّة وعموم فلسطين المحتلة بالمال والنفس والنفيس. فالصهاينة، يا سادتي الكرام، لا يؤمنون بمبدأ التعايش السلمي، أفرادا أو زرافات. إنّه كيان عنصريّ نصّبه الغرب (المتأمرك) لقضاء مآربه الاقتصاديّة لا غير. وكلّ من سعى إلى التصالح معه، فأدنى ما يوصف به صفة الخيانة الكبرى. كما اعتقد محمود درويش في قصيدته (حالة حصار):
أيّها الواقفون على العتبات ادخلوا،
واشربوا معنا القهوة العربيّة
فقد تشعرون بأنّكم بشر مثلنا.
إلى قاتل: لو تأملت وجه الضحيّة
وفكّرت، كنت تذّكرت أمّك في غرفة الغاز.
وقد صدق أمل دنقل حين قال في قصيدته (لا تصالح):
لا تصالح
ولو قيل ما قيل من كلمات السلام
كيف تستنشق الرئتان النسيم المدنّس؟
كيف تنظر في عيني امرأة
أنت تعرف أنّك لا تستطيع حمايتها؟
لا تصالح
ولا تقتسم مع من قتلوك الطعام.
لقد صدق الشاعر أمل دنقل رحمة الله عليه. فإنّ هذا العدو الصهيوني لا يؤمن بالسلام مهما مدّت له أيدي السلام، لأنّه يعتقد، كما قال محمود درويش رحمه الله أنّه فوق مستوى البشر، وأن الفلسطيني خاصة والعربي عامة ليسا من البشر، ولا يحقّ لهما العيش مطلقا.
يا شهداء غزة الأبرار، أنتم أحياء عند ربّكم ترزقون. ستكون حياتكم أطول من حياة بني صهيون يا نساء غزّة الصامدات، الولاّدات، أبشرن، فإنّ دماء فلذات أكبادكنّ لم تُسفك سدى أبدا، ستزهر على كلّ شبر من تراب غزّة العصيّة، ستنتفض من بين قلب الرماد والركام كما العنقاء. فلا تهنّ ولا تحزنّ، واعتصمن بالله الواحد القهار وبحبله المتين …، يا أطفال غزّة البواسل، يا أبطالها، سيشهد أحرار العالم بأنّكم واجهتم عدوّكم الفاشي وعدو الإنسانيّة بصدور عاريّة. قتلتكم طائراته ومدافعه ودباباته غدرا، وقتلكم صمت دعاة الحريّة والديمقراطيّة وحقوق الإنسان وحماة البيئة والحيوان. قتلكم خذلان القريب وحقد البعيد.
يا أطفال غزّة، أنتم الأبطال في زمن أشباه الرجال الذين خذلوكم. دماؤكم، آلامكم، صرخاتكم، أنّاتكم، عطشكم، جوعكم، دين ثقيل في عنق الغرب والجبناء المتوارين خلف شعارات التنديد والتحجّج والتأسّف.
أيّها الغرب الداعم لبني صهيون، لن تجنيَ، أنت وصهاينتك الفاشست، من ملحمة غزّة سوى ثمار شجرة الزقّوم. لأنك، كما قال بطل الفيتنام الجنرال جيّاب، أنت تلميذ غبيّ. لا تحسب أنّ الله غافل عن جرائمك وشياطينك الصهاينة. تأكّد، أنّ غزّة ليست وحدها، فغزّة الأبيّة معها ملائكة الرحمن والأحرار في أنحاء العالم كلّها.
وصدق الله العظيم القائل في محكم تنزيله: “كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإذْنِ اللَّهِ” (البقرة / 249).