مئة مليون جثة في التاريخ / ديما الرجبي

بين تقليب على قنوات جوفاء وإصطدامي ب” بلحة ” ينادي بإصلاح التعليم في مصر وعناوين نارية لإشتباكاتٍ سياسية حربية حفظتها عن ظهر” قهر ” ، ومصنع الدخان الذي ما إنفكت العناوين عن ذكر “رائحته” النتنة ، ومللّي الذي يعبر بين تقلب قنواتٍ ومواقع إلكترونية ونصوص مؤدلجة الفكر موجهة الرسالة ، أيقظتني فنانة سورية شابة تحاول أن تجد لها موطىء ” وطن ” في برنامج عنون ب” آرب كاستينغ ” لا أعلم تاريخ صدوره .

” ليندا ” وهي تتقدم على إستحياء أمام لجنة فنية من بلادها وبلاد العرب أوطانها لتقييم أدائها ” التمثيلي ” بوقت لا يتجاوز الدقيقتان فقط .
أنعشت ذاكرتي معها بصفقات حُبكت ومشاهد أسقطت ووجوه دفنت بين الحق والباطل ، وتمرير إعلامي زخم بالسم المستساغ للقارىء ، و”لهاية” في فم شعوبٍ تجرعت لعابها حتى إختنقت به ، وما زال العرض مستمراً .

لتوقفه ” ليندا ” بكل بسالة وألم وحقيقةً لن يزيفها تاريخ سردها لقصتها _ كما ذكرت _ وإبتداعها مشهداً أقرب ما يكون للصمت منه للحديث الهزيل ، وقدرتها على كبت السؤال الأبله الذي يتبادر في ذهني في العادة ” إنت معارضة ولا نظام ” والإنصات لها وهي صاحبة “الإحدى عشرة ” ندباً في جسدها من أثر الحرب في سوريا، لتخبرنا عن ” مونولوج” حكم عليه بالقصف تارةً وبالشظايا تارةً أخرى وبالرفض … أخيراً ، حتى وصلت إلى مسرح مضيء براق ” آمن ” وتبدأ مشهدها قائلةً ..

” طافت أرقامٌ في ذاكرته .. وقال لنفسه في الثلاثين مرة التي إنتشر فيها وباء الطاعون بشكل كبير في التاريخ … وحصد ما يقارب المائة مليون
” ميت ” … ولكن ما معنى مائة مليون ميت ؟ عندما تشن الحرب بالكاد يدركون معنى ميت .. وبما أن الرجل الميت ليس له وزناً إلا عندما يُرى ميتاً فإن المائة مليون جثة المزروعة في التاريخ ليست سوى … دخاناً في المخيلة ”

لتنهي مونولوجها الذي عاثره الحظ حتى جيء به إلى هذه السطور ، وتذكرني بمدى تعاستنا نحن العرب ، ومدى سذاجتنا وتداخل مشاعرنا التي لا ترتقي بأن نصفها بالمشاعر ، بل هي أقرب إلى “البله والعُته” مع أحقيتنا بالإحتفاظ بسلامة العقل حتى لا نُجرد من ” حقوقنا ” المفترضة ويرفع عنا القلم .

مقالات ذات صلة

هكذا وبين بحثي عن سبق صحفي أو خبر لم يرصده “خبير” أو عنوان لم يتداوله أحد ، تأتي ليندا لتقول بلسان حال بلادنا العربية تلك الندوب التي خلفتها طائرات الحرب الرعناء أصابت كل بيت عربي دون أن تشعروا ، فلا فرق بين دمٍ يستباح وكرامةٍ مستباحة فكلاهما موت.

ولأننا ننتظر القادم بلا حول لنا ولا قوة ، جميل أن تهدينا الحياة إلى الواقع بلحظة غير متوقعة ولا منتظرة ، نعم يا ليندا أصابنا كما أصاب أجسادكم من ندوب وتقرحات والفرق بيننا وبينكم… عصي عن الكتابة وهو ما نتذرع به خوفاً من تعكير صفو أحدهم ، نحن في وقت الأزمات السياسية والصفقات المخزية نعترف بأن الرجل الميت ليس له وزناً إلا عندما يُرى ميتاً فإن المائة مليون جثة المزروعة في التاريخ ليست سوى … دخاناً في المخيلة ”

وهو حال كرامتنا المزعومة ، لا تتعدى كونها دخاناً في المخيلة ..
فها هو التاريخ يقبض على بقايا ” مسبحته ” بعدما أقتلع رأسها في العراق وتدلت حباتها لتصل اليمن ..

والله المستعان

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى