مأساة لاجئي مخيم الركبان : حياة على حافة الموت

سواليف

ارتسمت على شفتي الطفلة السورية سماح الأحمد ابتسامة مدهشة ومحيرة، فعلى الرغم من إدراك ابنة الأربع سنوات ونصف أنها عالقة كما الآلاف داخل مخيم الركبان الحدودي مع الأردن، لكنها تحلم أن تغادره قريباً لتلتحق بأسرتها المتواجدة في الأردن. ومخيم الركبان مقام في المنطقة الحرام، الواقعة بين الساتر الترابي الأردني والساتر الترابي السوري، وهي منطقة غير تابعة بالسيادة لا للأردن ولا لسورية.
حلم الطفلة يصطدم بالقرار الأردني المعلن في 21 يونيو/حزيران الماضي، في أعقاب هجوم إرهابي استهدف نقطة عسكرية مقابل مخيم الركبان ونتج عنه مقتل سبعة من أفراد الجيش والقوات الأمنية، وبموجبه أصبحت الحدود مع سورية منطقة عسكرية مغلقة، وتوقفت المملكة منذ ذلك التاريخ عن استقبال اللاجئين، من دون أفق واضح للتراجع عن القرار. يؤكد قائد لواء حرس الحدود الأول، العميد الركن بركات العقيل، أنه “منذ إغلاق الحدود لم يدخل أي لاجئ إلى المملكة، ومن يدخلون للعلاج يعودون إلى المخيم”.

” تفتقد سماح أفلام الكرتون، فهي منذ قرابة العام ونصف عام على وجودها في المخيم بصحبة جديها وعمتها لم تشاهد التلفاز، وبحماسة تعلن “لما نروح عند أبوي وأمي راح ضلني قدّام التلفزيون”.
الطفلة التي التقتها “العربي الجديد” خلال جولة نظمها الجيش لوسائل إعلامية على الحدود الشمالية الشرقية في منطقة الركبان، الثلاثاء الماضي، حضرت مع جدتها إلى مركز طبي يبعد نحو كيلومترين عن المخيم للعلاج من الجرب الذي أصابها أخيراً، وكذلك التبول اللاإرادي. تقول جدتها الخمسينية: “الجرب منتشر كثيراً بين الأطفال بالمخيم”، وتبرر بصوت خافت ما تعانيه حفيدتها بتردي واقع المرافق داخل المخيم، والخوف الذي تعيشه الطفلة.
عندما بلغت سماح شهرها السابع، قرر والدها القدوم إلى الأردن للعمل، يومها أصرت الجدة على الاحتفاظ بالطفلة، فغادر بصحبة والدتها، تروي الخمسينية أم محمود التي تشعر بندم كبير على فعلتها، ويزيد من ندمها أن أولادها الخمسة إضافة إلى ثلاث من بناتها الأربع يتواجدون في الأردن، فيما هي عالقة على الحدود مع زوجها وابنتها المريضة وحفيدتها بسبب إصرارها السابق على عدم ترك بيتها وقطيع أغنامها. تقول “راح البيت والغنم وعلقنا على الحدود”.
للتخفيف من ندمها، تتصل بشكل منتظم بوالد سماح عبر “فيسبوك” لتتمكن الطفلة من مشاهدته والتعرف إلى شقيقتيها اللتين ولدتا في الأردن. تبلغ كلفة الاتصال الواحد عبر الإنترنت، من داخل المخيم 200 ليرة سورية، وهي الخدمة التي يوفرها لاجئ يمتلك في خيمته جهاز كمبيوتر موصول بالإنترنت.
ليست سماح الطفلة الوحيدة العالقة على الحدود ويقيم والداها في الأردن، ذلك حال الطفل خليل (13 سنة) الذي يقيم والداه في مخيم الأزرق للاجئين السوريين، فيما بقي هو عالقاً داخل المخيم برفقة عمته. يؤكد الناشط في “جيش أحرار العشائر” صلاح الخضير، أن عشرات الأطفال يتواجدون داخل المخيم فيما يتواجد آباؤهم في الأردن، مشيراً إلى أن من بين هؤلاء الأطفال من هم دون مرافق، مطلقاً مناشدة لحل مشكلتهم.
على الرغم من ظروف عيشهم القاسية، يشعر اللاجئون الذين تحدثت “العربي الجديد” إليهم داخل المركز الطبي التابع للمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين/مكتب الأردن، بتحسن طفيف طرأ على حياتهم أخيراً، مقارنة بالأشهر الأولى التي أعقبت إغلاق الحدود، فهم يتمكنون الآن من الحصول على العلاج داخل المركز الطبي الذي أنشئ في ديسمبر/كانون الأول الماضي، كما باتوا يحصلون على المساعدات الغذائية بشكل منتظم، ويعبّرون عن آمالهم بأن يستمر هذا الأمر على الرغم من انتقادهم لعدم كفاية تلك المساعدات.
يوفر المركز الرعاية الطبية الأولية الطارئة، فيما تتم إحالة الحالات الطبية الأكثر خطورة إلى مرافق صحية أخرى داخل الأردن لتلقي العلاج، شرط إعادتهم إلى المخيم. ومنذ إنشائه قدّم المركز الخدمة لنحو 1037 لاجئاً، فيما حوّل 51 حالة مرضية إلى المستشفيات داخل المملكة، وفقاً لإحصائيات المفوضية.

قائد لواء حرس الحدود الأول، العميد الركن بركات العقيل، يوضح آلية خروج اللاجئين للعلاج، إذ تُحدد الحالات بالتنسيق مع “جيش أحرار العشائر” المتواجد داخل المخيم، ثم يصار إلى نقل المرضى من قِبل قوات حرس الحدود بعد تفتيشهم بشكل دقيق للتأكد من أنهم لا يتبعون لجماعات إرهابية.
وتتخوّف الجهات الأردنية من نشاط الجماعات الإرهابية، خصوصاً تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش) داخل مخيم الركبان وعلى مقربة من حدود المملكة. ويُقدّر العقيل وجود “داعش” على بعد ثلاثة كيلومترات من الحدود مع المملكة، في المنطقة الواقعة خلف المخيم، لكنه يؤكد في الوقت ذاته وجود أوكار للتنظيم داخل الركبان، مشيراً إلى أن أفراده يتخفّون تحت صفة لاجئين.
واستناداً إلى معلومات استخبارية، يُقدّر العقيل نسبة “المتطرفين” داخل المخيم بعشرة في المائة من مجموع قاطنيه البالغ وفقاً للتقديرات العسكرية نحو 70 ألف شخص. ويقول: “غالبية المقيمين في المخيم طالبو لجوء، والنسبة الأكبر هم من الأطفال والنساء والشيوخ. لا يمكن تصنيف جميع المتواجدين كإرهابيين”. ويؤكد أن “واجبنا الأساسي حماية المملكة من أي اعتداء إرهابي خارجي أو أي أعمال تسلل، ويرافق هذا الدور مساعدة اللاجئين وتأمين وصول المساعدات الغذائية لهم وتقديم العلاج للمرضى”.
تتقاطع المخاوف العسكرية من وجود “داعش” مع خوف اللاجئين منه، وهو الذي استهدف المخيم أكثر من مرة. الستينية خالدية الحمود تعبّر عن خوفها وخوف الآخرين، قائلة: “نسمع إنه داعش راح يدخل المخيم، هالشي بيخلينا ما نحس بالأمان”. لكن لا خيار آخر سوى اللجوء إليه، فتقول: “ما نقدر نرجع لبيوتنا ومن هون ما نقدر ندخل للأردن… أحسن شي نضل بالمخيم نموت هون ولا نرجع”.
المخاوف ذاتها لدى اللاجئة فويزه عليوي، التي حضرت إلى العيادة لعلاج طفلها سامر الذي أنجبته داخل المخيم قبل خمسة أشهر، من سوء التغذية. وهي إضافة إلى خوفها من “داعش” تخاف على حياة ابنها من البقاء مدة أطول داخل المخيم، في ظل نقص حاد في مادة الحليب وعجز عن شرائه. تقول عليوي: “كل أسبوع بحتاج علبة حليب سعرها بالمخيم 10 آلاف ليرة، في الأول ما كانت تتوفر دائماً، وهسا من أسبوعين ما شريتها لأنه ما عاد عندي فلوس”.
يتحدث اللاجئون عن جشع التجار الذين يُحضرون البضاعة من داخل سورية لبيعها في المخيم، ويطلبون فيها أضعاف سعرها الطبيعي. وتروي العديد من اللاجئات اضطرارهن لبيع مصاغهن بأسعار بخسة للحصول على المال اللازم لشراء احتياجاتهم. حتى أن “جيش أحرار العشائر” المسؤول عن المحافظة على الاستقرار داخل المخيم، ويشكّل حلقة الوصل بين اللاجئين والقوات الأردنية في عملية إدخال المساعدات الغذائية ونقل المرضى للعلاج، يقف عاجزاً عن ضبط الارتفاع الجنوني لأسعار السلع والخدمات، كما أبلغ الناشط صلاح الخضير

” وفيما يؤكد اللاجئون أن المخيم الذي سُمح للصحافيين خلال الجولة أمس الأول الثلاثاء بمشاهدته من أقرب نقطة عند الساتر الترابي على الحدود الأردنية، يتوسع بشكل سريع، ويتحول تدريجياً إلى مدينة في الصحراء، إلا أن أعداد القاطنين فيه ما تزال محل تضارب بين الجهات المختلفة. وفيما تقدّر القوات المسلحة الأردنية عدد المتواجدين داخل الركبان بنحو 70 ألفاً، يحصيهم “جيش أحرار العشائر” بأكثر من 100 ألف، في وقت تقول فيه أرقام المفوضية السامية لشؤون اللاجئين التي تعتمدها بناءً على تحليل الصور الجوية وحجم المساعدات المقدّمة إنهم 55 ألفاً.
المتحدث باسم المفوضية محمد الحواري، يرى أن غياب رقم حقيقي لعدد اللاجئين في المخيم هو أحد التحديات التي تواجه عمل المنظمة، والتي تنعكس على تقدير الاحتياجات الواجب توفيرها للاجئين. ويشير إلى أن “اللاجئين يعيشون ظروفاً أمنية وإنسانية قاسية، وما يُقدّم لهم حالياً يمثّل الحد الأدنى من الاحتياج اللازم للبقاء على قيد الحياة”.
قبل أن تغرب شمس ذلك اليوم، عادت سماح وجدتها إلى المخيم، وعاد جميع اللاجئين الذين التقتهم “العربي الجديد” داخل المركز الطبي، لتحاط قصصهم من جديد بالستار الترابي بين الحدين الأردني والسوري في عزلة تامة عن العالم.

العربي الجديد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى