لُغز المصلحة الوطنية / ميس داغر

لُغز المصلحة الوطنية

رحلتنا نحن الشعب في فكّ “لُغز المصلحة الوطنية” لا تعدلها أية رحلة أخرى، إنها ضربٌ من الخيال الأسطوري، مِحنة ومِنحة من الأدرينالين والمغامرة.
( بإمكانكم أعزائي القرّاء في هذه اللحظات التزوّد بالشاي والمكسّرات).. ونبدأ الحكاية:
لطالما تساءلنا نحن العامّة عن الأسباب التي تجعل هذا الوطن لا تقوم له قائمة. وبعدما أضنانا اليأس من العثور على جوابٍ شافٍ خطر لنا مراقبة قادة البلد عن قرب، خشية أن نجد في سلوكهم ما يضرّ بالمصلحة الوطنية.
بعد مراقبة مُكثفة، وجدنا أنّ الواحد منهم، بمجرد وصوله إلى موقع اتخاذ القرار، ينهمك بطريقة جنونية في تحقيق المصلحة الوطنية. وبشكلٍ لم تعرفهُ البشرية من قبل، تغدو المصلحة الوطنية غاية هذا المسؤول، الذي قد يفقد عقله ويهيم على وجهه في البراري لشدة ما يفكّر فيها. ولا أخفيكم ذهولنا باكتشاف أنّ العديد من مسؤولينا تيّمت المصلحةُ الوطنيةُ عقولَهم منذ مدة طويلة، حتى هامت وفُقد الأمل في عودتها.
وجدنا أنّ القاعات تُغلق يومياً على قادتنا لساعات يتفكّرون خلالها في المصلحة الوطنية. وأنهم يخططون على مدار الساعة، للتلاقي بالمصلحة الوطنية. ويسيّرون سياساتهم بما يتلاءم ومزاج المصلحة الوطنية.
وهكذا، يا عزّنا وعزوتنا، لمّا ألقينا عيناً على الحكومة، لم نجد ذرة غُبار واحدة على جُهدها المشرّف لتحقيق المصلحة الوطنية. ولمّا ألقينا عيناً على المعارضة، سبّحنا للذي فصّلها خصّاً نصّاً لغايات تحقيق المصلحة الوطنية. وأمّا قادة الإقتصاد، فلم نستطع عند مراقبتهم إلاّ أن ننظر بعين العطف إلى نوّاسة المصلحة الوطنية، التي لا يتخذون قراراتهم إلا تحت ضوئها الواهن. وبالنسبة لقادة المفاوضات، فحتى قبل أن نفكّر بمراقبتهم، وجدنا أنفسنا نخرُّ سُجّداً أمام تقمّصهم الخُرافي للمصلحة الوطنية.
حتى يا أبناء الحلال في الإنقسام، وجدنا أنّ الخلافات بين الأخوين الأهطلَين اشتعلت على كل شيء إلا على المصلحة الوطنية، فقد اتفق الأخوان الأهطلان على ضرورتها. يعني بالمُختصر، كيفما تلفّتنا يميناً او شمالاً في بلادنا، وجدنا تركيزاً عجيباً على المصلحة الوطنية، لدرجة ملاحظتنا أنه حتى في حالات شلّ أم المواطن، يتم مراعاة المصلحة الوطنية أثناء إنفاذ الشلّ.
وهكذا، ومثلما توقعنا من الأساس، لم نجد أية إشارة لتقصير قيادي في بلادنا في العمل بما يتلاءم والمصلحة الوطنية. ولا شكّ أنها، بعد هذا الاستنتاج، اطمأنّت نفوسنا تماماً تجاه سلوك القيادة، إلّا أنّ حيرتنا تعاظمت بشكلٍ يفوق الوصف. إذ بدأنا نتساءل عن السبب الذي يجعل الوطن يتقهقر إلى الوراء برغم هذا التركيز الفائق على المصلحة الوطنية! لهذا لم نجد بُدّاً من الإستعانة بخبراء لحلّ هذه المعضلة.
بعد أبحاث معمّقة، توصّل الخبراء الأفذاذ إلى حلّ اللغز: إنّ أساس المعضلة كلها يعود إلى أنّ تركيز القيادة على المصلحة الوطنية يفوق المستوى الطبيعي للتركيز، فيرتدّ سلباً على الوطن.
نَصَحَنا الخبراءُ بضرورة تخفيف القيادة من تركيزها على المصلحة الوطنية، بل والأفضل شَغل فِكرها تماماً عن هذه المصلحة، كي يتسنّى للوطن التقاطُ نَفَسٍ والتقدم إلى الأمام.
ربما تعتقدون أعزّائي أننا بمجرد أن عرفنا نحن الشعب الداء وجدنا السبيل إلى الدواء. في الحقيقة، لم يكن السبيل إلى الدواء سهلاً؛ فكيف لنا أن نخفّف من تركيز القيادة على المصلحة الوطنية وهي منقضّة انقضاضاً عليها! إنّ محاولة تفريق قادتنا عن المصلحة الوطنية يشبه محاولة تفريق عنترة عن عبلة! فلقادتنا أفئدةً تغلغل عشقُ المصلحة الوطنية فيها حتى علّقها، وأعمى بصرها وبصيرتها. كان مجانين العشق هؤلاء على استعداد لإفناء زهرة أعمارهم لعيون المصلحة الوطنية.
مع هذا، تشهدُ دموعُ المآقي، وأرَقُ الليالي، وأطلالُ عبلة أننا بذلنا نحن الشعبُ الجهدَ الذي نستطيع. اضطررنا إلى اختراع مناسبات عجيبة غريبة لإلهاء مسؤولينا عن التفكير في المصلحة الوطنية. عملنا على تدريب كلاب بوليسية تصدّهم عن المرور بديار المصلحة الوطنية. اتفقنا مع عوائلهم على إقناعهم بأنّ التركيز على مصالحهم الشخصية لهو أنفع وأبقى لهم من التركيز على المصلحة الوطنية. وقد كان إقناعهم في هذا الجانب بالذات من سابع المستحيلات عندما بدأنا العمل عليه.
برغم الممانعة الشديدة التي أظهروها في البداية – وهذا متوقّع من صُبّ أمثالهم- إلا أنّ جهودنا معهم بدأت تؤتي ثمارها بعد حين. فبمجرّد أن صاروا ينشغلون شيئاً فشيئاً عن التركيز في المصلحة الوطنية بدأنا نلحظ انتعاش البلاد على كافة الصُعُد.
بعد وقتٍ ليس بطويل من إشغالهم، بدا واضحاً أنّ خطّ الإزدهار الوطني في تصاعد. داومنا بجهودٍ حثيثة على ما نقوم به. كان الكابوس المرعب بالنسبة لنا هو أن نغفل عن إشغال مسؤول ما، فيعود إلى التفكير بالمصلحة الوطنية، ويُدمّر بذلك كل ما أنجزناه. لهذا حرصنا على وضعهم جميعاً تحت أعيننا طوال الوقت. لم نسمح لهم بالإختلاء بأنفسهم دقيقة واحدة، باستثناء دقائق خلوتهم في الحمّام. وكانت الأمور مضبوطة معنا؛ القادة لا يفكرون بالمصلحة الوطنية والوطن في انتعاش.
أنتم بالطبع الآن تتأمّلون الطينَ الذي توحلُ فيه بلادُنا وتتساءلون عن أي انتعاش نتحدث. إننا نؤكد لكم أنّ الإنتعاش حصل فعلا، لكنّ مصيبةً كانت تتعاظم من وراء ظهورنا نحن الشعب أدّت إلى انتكاس البلاد إلى الستين طينة، وقد استغرق الأمر منّا جهداً ووقتاً كي نكتشف تلك المصيبة. فقد عرفنا –بعد طول بحث وتنقيب- أنّ قادتنا المُتيّمين، وأثناء دقائق خلوتهم في الحمّام، كانوا يفكّرون سِرّاً بالمصلحة الوطنية.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى