
#لينين: #مهندس #روسيا_الحديثة وإرثه العالمي
د. أيوب أبودية، موسكو
تمركزت شخصية فلاديمير لينين (1870-1924) في قلب أعظم زلزال سياسي واجتماعي شهدته روسيا والعالم في القرن العشرين: الثورة البلشفية عام 1917. لم يكن لينين مجرد قائد ثوري عابر، بل كان منظّراً سياسياً ومهندساً لنظام جديد كلياً، طبعت بصمته روسيا الاتحادية المعاصرة بشكل لا يُمحى ولا يزال صداه يتردد حتى في الأحداث الجيوسياسية اليوم، من حرب أوكرانيا إلى الصراع في فلسطين.
قبل عام 1917، كانت الإمبراطورية الروسية تعاني من تخلف اقتصادي واجتماعي وسياسي تحت حكم القيصر. جاءت الثورة البلشفية، التي قادها لينين بحنكة استراتيجية، لتمزق نسيج الإمبراطورية القديم. لم تكن مجرد انقلاباً عسكرياً، بل كانت مشروعاً طموحاً لإعادة تشكيل الإنسان والمجتمع بناءً على الفكر الماركسي المحدث كما فسره لينين.
أسس لينين دولة الحزب الواحد، وقمع المعارضة بيد حديدية عبر “الإرهاب الأحمر”، وأرسى أسس النظام الشمولي الذي سيستمر بعده. من الناحية الإيجابية، أنهى مشاركة روسيا في الحرب العالمية الأولى، ونقل ملكية الأرض للفلاحين (لفترة)، وأعلن حق تقرير المصير للقوميات (نظرياً). لكن الأهم كان تأسيسه “الاتحاد السوفيتي” عام 1922، الذي حوّل روسيا من إمبراطورية تقليدية إلى قطب أممي شيوعي، منافساً للغرب الرأسمالي في حرب باردة استمرت لعقود.
رغم انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991، فإن إرث لينين لا يزال حياً في روسيا الحديثة بطرق متناقضة:
- الهيكل المركزي للسلطة: فالنموذج الذي وضعه لينين لدولة مركزية قوية، يسيطر عليها حزب أو كيان واحد، يُرى بوضوح في النظام السياسي الحالي تحت قيادة فلاديمير بوتين. فكرة أن روسيا تحتاج إلى “يد قوية” ممثلة في قيادتها هي سردية متجذرة في التجربة اللينينية والستالينية.
- الحدود الجيوسياسية: خريطة الدول المستقلة اليوم (أوكرانيا، بيلاروسيا، دول القوقاز وآسيا الوسطى) هي نتاج السياسات القومية المعقدة للينين وستالين، والتي رسمت الحدود داخل الاتحاد السوفيتي. حرب أوكرانيا اليوم، على سبيل المثال، لها جذور عميقة في هذه الترسيمات التاريخية.
- التراث المزدوج: داخل روسيا، يُنظر إلى لينين بشكل منقسم. بالنسبة للبعض، هو بطل قاد روسيا إلى طريق التحديث والعالمية. بالنسبة للآخرين، هو مهندس نظام قمعي أدى إلى مآسٍ إنسانية وكبح تطور روسيا الطبيعي. تماثيل لينين ما زالت قائمة في ساحات المدن، لكنها تمثل إرثاً ثقيلاً ومثيراً للجدل في روسيا الحديثة.
زرت ضريحه مرتين خلال زيارتي الاخيرة في النصف الثاني من شهر أيلول ٢.٢٥، فهو محنط الجسد ومسجى في ضريح مهيب، ويمكن أن تنظر اليه من مسافة أربعة أمتار تقريبا فتجده كأنه نائم على سرير. له هيبة وكبرياء حتى وهو مسجى على فراش الموت. ولا شك أنه ترك بصمة واضحة على روسيا والعالم، فما هو تأثير لينين على العالم؟
لم يكن تأثير لينين محصوراً بروسيا. لقد قدّم النموذج الأول للثورة الشيوعية الناجحة، فأصبح مصدر إلهام لحركات التحرر الوطني والتنظيمات اليسارية في كل أنحاء العالم طوال القرن العشرين، من الصين وكوبا إلى فيتنام وأفريقيا والشرق الأوسط. لقد أعاد تعريف الصراع السياسي على أنه صراع طبقي دولي، وساهم في تشكيل خريطة العالم الحديثة المنقسمة بين معسكرين، وتجاوز فكر ماركس الذي اعتقد ان الثورة الاشتراكي ستنطلق من الدول الصناعية لوجود طبقة عاملة ناضجة، بينما لينين أثبت أن الثورة يمكنها أن تقوم في الدول النامية، أي في الأطراف التابعة للمراكز الراسمالية الناضجة. كما تبلور مفهوم الامبريالية في ذهنه الذي لم يكن موجودا زمن ماركس، واعتبر أن الراسمالية بعد عام ١٨٧٠ دخلت عصر الامبريالية عندما لم تحقق ما يكفي من أرباح لاستثماراتها فشرعت في التوسع على حساب الدول الفقيرة.
وعندما التقيت لينين وجها لوجه اول ما خطر ببالي أنني تساءلت عن موقفه الافتراضي من القضايا المعاصرة، فلو عاد لينين اليوم، لربما كانت قراءته للأحداث مستندة إلى إطارين رئيسيين: “الإمبريالية” و”الصراع الطبقي”.
بخصوص الحرب على غزة والعلاقة الأمريكية-الإسرائيلية، لا شك أن لينين كان سيرى في هذا الصراع مثالاً صارخاً على “الإمبريالية” بمفهومه الذي استنبطه. كان لوصف إسرائيل كـ”دولة عميلة” للإمبريالية الغربية (الولايات المتحدة) التي توفر لها الغطاء السياسي والعسكري والمالي اللامحدود. كان سيعتبر أن القمع الذي تتعرض له فلسطين هو استمرار للسياسات الاستعمارية التي كان يحاربها أيضا، وبناء عليه سيحاول تحويل القضية إلى قضية أممية، داعياً “بروليتاريا” العالم و”المستضعفين” إلى دعم المقاومة كجزء من الحرب العالمية ضد الرأسمالية والإمبريالية. وكان أيضا ليشجب “البرجوازية” العربية التي تتواطأ مع المصالح الغربية بحكم علاقتها التابعة غير المتكافئة على كافة الاصعدة.
وبخصوص حرب أوكرانيا، فربما يكون الموقف أكثر تعقيداً. من جهة، كان لينين، الذي أعلن حق الأمم في تقرير مصيرها، قد دعم نظرياً حق أوكرانيا كأمة ذات سيادة في اختيار مسارها. ولكن من جهة أخرى، كان لينين براغماتياً لا يعترف بأي مبدأ فوق مصالح الثورة العالمية والسلطة السوفيتية. ففي سياق الاستراتيجيات المعاصرة الراهنة، كان ليرى في حرب أوكرانيا صراعاً بالوكالة بين روسيا (التي قد يراها قوة رجعية إلى حد ما لأنها ليست شيوعية) وحلف الناتو بقيادة أمريكا (الإمبريالية الأساسية). ربما كان لينين سوف يدين توسع الناتو شرقاً كاستفزاز إمبريالي، لكنه في الوقت نفسه كان سينتهز الفرصة لإضعاف كلا المعسكرين الرأسماليين المتصارعين، آملاً في أن تؤدي الأزمة إلى مواقف أكثر ثورية في أوروبا أو في روسيا نفسها.
خلاصة القول ان فلاديمير لينين كان شخصية محورية غيرت مجرى التاريخ. لقد شكل روسيا الحديثة بمزاياها وعيوبها، وأطلق تياراً فكرياً وسياسياً هائلاً أثر على العالم بأسره. إرثه من القوة والصراع والأيديولوجيا لا يزال يلقي بظله الطويل. ورؤيته الافتراضية للأحداث الحالية، وإن كانت تخمينية، تذكرنا بأن مفاهيم مثل الإمبريالية والصراع بين القوى العظمى ما زالت حية، وأن العالم الذي نعيش فيه اليوم هو، إلى حد كبير، نتاج للهزات العنيفة التي أشعلها ذلك الثوري الحديدي قبل أكثر من مائة عام.