
كتبت .. #لميس_اندوني
لم يكن تخلّي الرئيس الأميركي دونالد #ترامب عن اقتراحه #تهجير_الفلسطينيين من قطاع #غزة مفاجئاً تماماً، ولا وليد تقلب مزاجه؛ فمنذ لحظة إعلانه رغبته بالاستيلاء على غزّة لجعلها مشروعاً عقارياً، تحرّك مستشارون وأعضاء في الكونغرس وخبراء في مراكز أبحاث أميركية لإقناع البيت الأبيض بالتخلّي عن الفكرة. لكن هذا المقترح (أو الخطّة) جرى توظيفه للضغط على #الدول_العربية لوضع #مشروع_بديل لإعادة إعمار غزّة وفقاً لشروط أميركية إسرائيلية، وطمعاً في تحقيق #تطبيع بين #السعودية و #إسرائيل.
لتراجُع ترامب أسبابٌ وضرورات سياسية، وهو ليس نتيجة رفض كل من #مصر و #الأردن تهجير الفلسطينيين إلى أراضيهما فحسب، بل لأن الدوائر المؤثّرة في #واشنطن اعتبرت الفكرة تقويضاً لاتفاق تطبيعي تحالفي بين السعودية وإسرائيل. لكنها أيضا رأت في إعلان ترامب فرصة للضغط على الدول العربية لتقديم بديل، وتحميلها المسؤولية لمواجهة تبعات دمار #حرب_الإبادة_الإسرائيلية على فلسطينيي غزّة، وتأمين شروط دولة #الاحتلال لوضعٍ يضمن مصالحها ومتطلباتها الأمنية في القطاع المدمّر، لم تنجح في فرضه بالحرب، ما يمهّد الطريق لتوقيع معاهدة سعودية إسرائيلية، لم تتخلّ واشنطن يوماً عن السعي إليها.
لم يكن توقيت تصريح ترامب الذي أعلن فيه تراجعه عن “خطّته” مصادفة، بل واكبت اجتماع قمة عربيٍّ مصغّر “غير رسمي” في الرياض أول من أمس الجمعة، وهو مؤشّر على أن مسؤولين أميركيين كانوا يتواصلون مع القمّة وجدوا أنّ أفكار ترامب التي اعتبرت غزّة أرضاً مباحة لتراكِم ثروات عائلته ومجموعته تحد من قدرة القادة العرب على تقديم طروحاتٍ بديلة. وأول من تحدّى العالم العربي في تقديم مشروع بديل كان الدبلوماسي المخضرم السابق دينيس روس، من معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى (صهيوني التوجّه)، وهو ما أشرت إليه في مقال في “العربي الجديد” (16/7/2023). ثم بدأنا نسمعه من مسؤولين أميركيين أبرزهم وزير الخارجية ماركو روبيو الذي طالب الدول العربية بوضع خطّة بديلة، ما يدلّ، كما دائماً، على عِظم نفوذ مراكز الأبحاث، فهي ليس بعيدة عن المؤسّسات الأميركية والكونغرس في تأثيرها على صنع قرارات مهمة في واشنطن، وبخاصة إذا كانت تنسجم مع الاستراتيجية الأميركية. ففي هذه الحال بالذات، ما يهم هو تسريع إدخال السعودية في معاهدة تطبيعية مع إسرائيل، والحصول على التزام من الدول العربية بتمويل الترتيبات التي تقترحها إسرائيل وأميركا بخصوص غزّة من إشراف عربي على مرحلة انتقالية، وإدارة السلطة الفلسطنية بشروط جديدة ومسؤول تختاره واشنطن، بغرض السيطرة على سكان غزّة وإنهاء وجود حركة حماس أو بروز أي تنظيم يشكّل خطراً على إسرائيل.
رفضت إسرائيل، منذ البداية، أي وجود للسلطة الفلسطينية، لكن الإدارة الأميركية السابقة أصرّت على ذلك، بل اجتمع مدير المخابرات المركزية الأميركية وليام بيرنز مع شخصيات فلسطينية لإقناعها بتولي الدور، ولكنه فشل، حتى إن إحدى الشخصيات التي تباحث معها تعاونت مع الرئيس الفلسطيني محمود عبّاس لإفشال ما رمى إليه بيرنز. وليس واضحاً بعد ما إذا كانت إدارة ترامب مستعدّة لقبول دور للسلطة في قطاع غزّة، وهي أوقفت أخيراً المساعدات المالية لقوات الأمن الفلسطينية. لكنها مهمة أوكلت حصرياً لمبعوث ترامب للشرق الأوسط ستيف ويتكوف، الصهيوني المعلن الذي يشارك صهر ترامب جاريد كوشنر في اهتمامه باستغلال شاطئ غزّة لمشاريع سياحية.
المهم أن ترامب أعلن تغيير موقفه الذي تحسّر علناً على تخلّيه عن سرقة كل قطاع غزّة جهاراً، واصفاً إياه بـ”قطعة أرض جميلة”، وأنه لا يفهم “لماذا تخلى الإسرائيليون عنها”، فلا وجود لأوطان وحقوق للشعوب في مخيلته الرأسمالية الجشعة. لكن للمصالح الأميركية الكبرى الأولوية على الأمنيات، أي أن المؤسّسة الأميركية استطاعت وقفه عند حدّه، على الأقل في هذه الحالة. ولا يعني هذا أن هذه بداية لكبح ترامب داخل أميركا وخارجها، لكن الواضح أن دائرته الأوسع في الحزب الجمهوري أيضا تدخّلت، على ما أظهرت هذا تصريحات السيناتور الجمهوري ليندسي غراهام الذي رفض علناً وبشدّة فكرة ترامب لمستقبل غزّة، فالإدارات الأميركية، ومنها إدارة ترامب في ولايتها السابقة، نجحت في توسيع دائرة التطبيع العربية، وحققت المعاهدة الإبراهيمية غير المسبوقة في بنائها اتفاقيات تحالفية مع إسرائيل تقبل الرواية الصهيونية.
تراجع ترامب مهم، لكن رمي الكرة في ملعب العرب ليس ذكاءً منه ومن الدوائر المؤثرة في القرار في واشنطن، لكن لأنهم وجدوا أن الدول العربية لا تأخُذ زمام المبادرة وتقدّم طروحات تحافظ على حقوق الشعب الفلسطيني، وإنما تسعى إلى إيجاد ترتيبات تتوافق، ويكون أساسها مقترحات أميركية تبني عليها التوصّل إلى حل وسط، عادةً يقبل بالهيمنة الأميركية.
وقد شكّل رفض اقتراح ترامب الذي جاء باعتباره تهديداً لاستقرار مصر والأردن علامة فارقة في وضوحه موقفاً وردّاً على الأميركان، لكن المشكلة أننا دخلنا في مرحلة مساومات، وهذه عادة مرحلة الخطر، فردّ العالم العربي الضعيف على حرب الإبادة في غزّة، ومن بعدها تهديم مخيمي جنين وطولكرم وترحيل سكانهما في بداية عملية لمخطّط التهجير في الضفة الغربية، أغرى أميركا وإسرائيل بالاستمرار في فرض تحويل القطاع إلى مجموعة سكانية منعزلة، بغرض منعها من إعادة بناء مجتمعها فلسطيني الهوية، وتكسير طموح الشعب الفلسطيني وحلمه بالحرية.
لا بد من الخوف من البدائل العربية بشأن غزّة، إذ تضعها حكومات أضعفت نفسها وارتضت لنفسها دوراً “وظيفياً” في منظومة المصالح الأميركية، وهمّشت دور شعوبها ومؤسّساتها، بل أصبح بعضها رهينة لاتفاقيات التطبيع الإسرائيلية التي تعمّق من تبعيتّها وتقوّي هيمنة إسرائيل، ولم تستخدم حتى التهديد بتجميد التطبيع والاتفاقيات الاقتصادية، ما جعلها أكثر عرضةً للابتزاز وللضغوط الأميركية والإسرائيلية.
لذا؛ حقّنا، وعلينا أن نخاف، أو نغضب، خصوصاً وأنها تكتمل، في حال توقيع اتفاق إسرائيلي – سعودي، حلقة تطويع العرب والأنظمة والمنطقة وتحويلها إلى محمية إسرائيلية أميركية، فالخطر الحالي ليس على الفلسطينيين فقط؛ وإنما على كل مواطن في الدول العربية من المحيط إلى الخليج. فهي لحظة شبيهة، وإن أسوأ، من عشية طوفان الأقصى، حين كانت أميركا على وشك إعلان انتصار ساحق على #الفلسطينيين والعرب باختطاف السعودية إلى معسكر التحالف مع إسرائيل… هل هناك من ينتبه أو يهتم بين أنظمةٍ عربيةٍ ترى في المقاومة خطراً أكبر من إسرائيل؟!