لماذا يُهاجِم الفَيلسوف الفِرنسيّ هنري ليفي تركيا “فَجأةً” ويَتَّهِمها بدَعم الإرهاب وزَعزَعة استقرار سورية؟ ألم يَلتقي مَعَها على أرضيّة تغيير النِّظام في دِمشق؟ وهل مُطالَبته بطَردِها من حِلف النِّاتو عُنوان لمُخَطَّطٍ أمريكيٍّ جَديدٍ لتَمزيقِها؟ وكيف يَجِب أن يكون الرَّد؟
عبد الباري عطوان
عِندما يُؤكِّد برنارد هنري ليفي الرَّجُل الذي يَتباهى بمَواقِفه الدَّاعِمة للحُروب في ليبيا وسورية، وانفصال كردستان العِراق “أنّ تركيا باتَت حليفًا غير مَوثوقٍ، ويتَّهِمها بنَشر التَّطرُّف الإسلاميّ، وتَأجيج العُنف في سورية، ويُطالِب بطَردِها من حِلف الناتو، فإنّ هذا يعني أنّها، أي تركيا، باتَت على لائِحَة الاستهدافَين الأمريكيّ والإسرائيليّ.
نَكتُب عن هنري ليفي، ونَتوقَّف عند آرائِه التي تَضمّنها مقال نشره في صحيفة “وول ستريت جورنال” المُقرَّبة من اليمين الأمريكيّ، والرئيس ترامب، قبل أيّام، لأنّه كان يَقِف مع تركيا في الخَندق نَفسِه في مُواجَهة سورية، ويَحتَضِنا معًا، “الثورة السوريّة” بشقّيها السِّياسيّ والعَسكريّ مُنذ بدايتها، فمَا الذي تغيّر، ولماذا هذا المَوقِف الشَّرِس، والمُفاجِئ، من قِبَلِه ضِد تركيا؟
تركيا كانت، وحتى تَقارُبها مع روسيا وإيران قبل عامَين النَّموذَج الذي يتغنّى به الكُتّاب أصدقاء إسرائيل، أمريكيين كانوا أو فرنسيين أو بِريطانيين، ويَمتَدِحون نَموذَجها الإسلاميّ المُعتَدل الذي يَرتَكِز على الديمقراطيّة والتَّنمية، ولكن الانقلاب حَصل في رأينا عندما تقارَبت القِيادة التركيّة مع حركة “حماس″، واتَّجَهت نحو روسيا بوتين، وأعلَنت تطوير علاقاتِها مع إيران، ورَفض الانصياع للعُقوبات الاقتصاديّة الأمريكيّة ضِدّها.
الآن أصبَحت تركيا، وحَسب ما جاء في مقال ليفي، دولةً تُقَدِّم السِّلاح للجماعات الإرهابيّة المُرتَبِطَة بـ”القاعدة” و”الدولة الإسلاميّة” أو “داعش”، وتُهاجِم طائِراتِها الأكراد في شمال شرق، وشَمال غَرب سورية.
***
أذكُر جيّدًا أنّني اشترَكت في بَرنامجٍ تلفزيونيٍّ على قناة “بي بي سي” البريطانيّة باللُّغةِ الإنكليزيّة مع “المُفكِّر” هنري ليفي، وفي برنامج News Night الشَّهير، وكان يَفتخِر طِوال الوقت أنّه لَعِب دَورًا كَبيرًا، ومن مُنطَلقات إنسانيّة، وانسجامًا مع يَهوديّته ودَعمِه لإسرائيل، لتَحريض الرئيس الفرنسي في حينها على التَّدخُّل لإنقاذ اللِّيبيين في بنغازي من مَجزرةٍ مُؤكَّدةٍ لقُوّات معمر القذافي، وعندما قُلت له، وماذا عَن أطفال غزّة الذين تَقصِفهم الطائرات الإسرائيليّة، ألا يستحقّون مِنك بعض التَّعاطُف، فرَد بأنّ إسرائيل تُدافِع عن نَفسِها في وجه حركة “حماس” الإرهابيّة، ممّا يعني أنّ المجازر الإسرائيليّة مَشروعة، وتَنبّأ بأنّ ليبيا ستكون واجِهةً للاستقرار والازدهار الاقتصاديّ، والدِّيمقراطيّة.
الإعلام يَلعب دَورًا رئيسيًّا في الغَرب للتَّمهيد لسِياسات ومَواقِف سياسيّة، وتَدخُّلاتٍ عسكريّة لاحِقة، ومقال هنري ليفي هذا يَصُب في الخانةِ نَفسِها، ولا نَستَبعِد، وفي ظِل الأزمة المُتفاقِمة حاليًّا بين أمريكا وتركيا، وكان آخِر فُصولِها إطلاق النَّار على السِّفارةِ الأمريكيّة في أنقرة، أن تكون هُناك تَحضيرات لطَرد تركيا فِعلاً مِن حلف الناتو بعد أكثر من سِتِّين عامًا من العُضويّة قدَّمت خلالها خَدماتٍ جليلة لهذا الحِلف باعتبارها ثاني أكبَر القِوى فيه، قرار بالطَّرد ربّما يَكون صَدر بالفِعل، ونحن على أبوابِ التَّنفيذ.
الهُجوم الإعلاميّ هذا يتزامَن أيضًا مع حَربٍ اقتصاديّة شَرِسة بَدأت بمُحاولةِ تَدمير اللَّيرة التركيّة، ولن يكون مُفاجِئًا إذا ما جَرى فرض عُقوبات اقتصاديّة جديدة على تركيا لرَفضِها الإفراج عن القِس أندور برونسون، وتَفعيل أنشِطَة الجماعة الكُرديّة داخِلها وفي سورية، من خِلال تسليحها ودَعمِها ماليًّا، وما دَعوة أمريكا لدُوَلٍ خَليجيّةٍ بإرسالِ 150 مليون دولار لدَعم المَناطِق الكُرديّة في شمال شَرق سورية إلا أحد المُقدِّمات المُهِمَّة في هذا الإطار.
اختلفنا مع السُّلطات التركيّة بسبب تَدخُّلها العَسكريّ في سورية، وما زِلنا نختلف معها، وحَذَّرنا من خُطورَة الانخراط في المُخطَّط الأمريكيّ لتَدمير هذا البلد العَربيّ وتَمزيقِه، رغم تحفّظاتِنا على بعض السِّياسات الداخليّة، ومُطالباتنا المُتكرِّرة بحَتميّة الإصلاح السِّياسيّ، ولكنّنا نعتقد أن تركيا ربّما تُواجِه المُؤامِرة نفسها التي استهدفت سورية على مَدى السَّنوات السَّبع الماضِية، وطَعنِها بخَنجرٍ أمريكيّ مَسمومٍ بعد أن انتهى دَورها في نَظرِهم.
أمريكا، ونَقولها للمرَّةِ المِليون، لا تُريد حُلفاء، وإنّما أدوات، تُوظِّفها في خدمة مُخطَّطاتِها للهَيمنةِ على مِنطَقة الشرق الأوسط، ومَنع أي دولة عربيّة أو إسلاميّة مِن امتلاك أسباب القُوّة، عسكريّةً كانت أو اقتصاديّة، ولهذا بَدأت باحتلال العِراق، وتدمير سورية، وتَغيير النِّظام في ليبيا، وفَرض عُقوباتٍ على إيران، وإسقاط منظمة التحرير الفلسطينيّة في حُفرَة أوسلو التي تَبدو بِلا قاع، وحَلبْ أرصِدَة الدول الخليجيّة بأشكالٍ ابتزازيّةٍ مُتعَدِّدةٍ.
***
بعد أُسبوعٍ ستَستضيف طِهران قمّة سوتشي الثُّلاثيّة، بحُضور الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والرئيس التركي رجب طيب أردوغان، إلى جانب الرئيس المُضيف حسن روحاني، وكُنّا نَتمنَّى أن يكون الرئيس السوري بشار الأسد هو رابِعهُما، وبَعد تحقيق المُصالَحة بين سورية وتركيا وانسحاب الأخيرة من كُل الأراضي السوريّة، على أُسس جديدة من التَّعاون وعلى قَدم المُساواة، ومُواجَهة الاستكبارين الأمريكيّ والإسرائيليّ.
الرئيس أردوغان، وبعد أن اكتشف الوَجه الأمريكيّ القَبيح، يَجِب عليه إجراء مُراجعاتٍ جذريّة لجَميع السِّياسات الحاليّة، والاتِّجاه نَحو الشَّرق، والانْخِراط في تحالفٍ رُوسيٍّ صِينيٍّ إسلاميٍّ يَضُم إيران وباكِستان والعِراق وسورية وتركيا يَتَصدَّى للغَطرسة الأمريكيّة، وهَوَس الرئيس ترامب في فَرضِ العُقوبات، وإعادَة التَّوازن العَقلانيّ إلى سَقف العالم.
الأمريكان ومِن خِلال حَربَهِم الاقتصاديّة ضِد تركيا يُريدون تَركيعها، وربّما تغيير النِّظام فيها أيضًا، على غِرار ما حاولوا مع سورية، ويُحاولون حاليًّا مع إيران، وقِمَّة طِهران الثُّلاثيّة نأمَل أن تَكون البِداية لصَحوةٍ تركيّة، وقَبل فوات الأوَان.. فهَل يَفْعَلها أردوغان؟