لماذا لم يسجل هيكل شهادته على العصر؟ / أحمد منصور

لماذا لم يسجل هيكل شهادته على العصر؟
هذا السؤال ظل يطرح عليّ طوال السنوات الماضية؟ لماذا لم تسجل شهادة محمد حسنين هيكل على العصر؟ وآن لي أن أجيب على السؤال طالما أنه لازال يطرح، وهي لن تكون مجرد إجابة على السؤال بقدر ما سوف تكشف عن بعض الجوانب في شخصية هيكل وكيف كان يفكر، علاوة على قدرته الفائقة على صناعة الفرص وانتهازها أو تطويعها أو وامتطائها، علاوة على قدرته الفائقة على التواصل مع الآخرين والإمساك بكل الخيوط حتى إذا وجد بغيته في خيط أمسك به وأفلت الآخرين، وهذه كلها صفات شخصية أكثر من رائعة لو أنها وجهت لخدمة الناس أو لخير البشرية لأن الله لم يخلق الناس ليعمل كل لنفسه وأنانيته وذاتيته فالرجل صاحب إمكانات هائلة لا ينكرها عليه أحد، لكن كل إمكاناته للأسف كانت مسخرة من أجل مشروع واحد هو مشروع هيكل الشخصي، والذي يعمل لذاته فقط عادة ما يدمرها في النهاية.

هناك صفات أضعها لكل شاهد على العصر كانت تنطبق على هيكل بكل تفصيلاتها ليس لكونه صحفيا أو كاتبا لامعا فهذه صفات لا تنطبق على الشهود ولكن لأنه كان رفيق عبد الناصر وشريكه في صناعة القرار فهو الذي كتب له فلسفة الثورة وهو الذي كان يكتب له حواراته ويرتب له مؤتمراته الصحفية وهو الذي كتب له خطاب التنحي وهو الذي حول الهزيمة إلى نكسة وهو الذي كان يزين له كل أفعاله، وبالتالي فهو هنا شريك وليس مجرد صديق أو صحفي أو كاتب فهو كان لعبد الناصر بمثابة جوبلز بالنسبة لهتلر كلاهما وجه للآخر، ومن ثم اتصلت به في بداية العام 2001 لتحديد موعد للزيارة حتى أفاتحه لتسجيل شهادته على العصر، فأبلغني مكتبه أن الأستاذ في انتظاري حينما أذهب إلى القاهرة، وبالفعل مع أول زيارة للقاهرة زرته في مكتبه، استقبلني الرجل بدفء يتميز به، فهو يشعر من يقابله كأنه صديق يعرفه من قديم وسرعان ما يبدأ في السرد والحكايات من قصة إلى أخرى ومن عهد الملك فاروق إلى عهد عبد الناصر إلى خلافه مع السادات إلى الملك فلان والرئيس علان.. قصص مسلية ومشوقة وجذابة، ولا ينكر على الرجل أنه راوية وحكاء من الطراز الرفيع، امتد اللقاء إلى حوالي ساعتين كنت منصتا فيها كالعادة أنصت وأتأمل وأتفحص وأتفهم الشخصية وأدرس جوانبها المختلفة، وفي نهاية اللقاء شكرته على حسن الاستقبال والاهتمام والوقت الممتع ثم فاتحته في طلبي وهو تسجيل حلقات شاهد على العصر.. هز رأسه وأخذ يفكر قليلا، لا أدري هل في طلبي أم في الرد الذي سيقوله لي، أم أن هذه عادة لديه، ثم قال: انظر لقد شاهدت بعض برامجك لاسيما حينما طلبت زيارتي وأنا لا أجاملك فأنت تقوم بعمل مميز ولكن اترك لي بعض الوقت أفكر في الأمر..
ودعت هيكل تاركا له فرصة دراسة الأمر على أن يكون بيننا تواصل، وأنا عادة لا ألح على أحد وأترك الفرصة تأخذ مداها والشاهد يأخذ وقته، فبعض الضيوف قضيت سنوات وأنا أتواصل معهم أو أقضي جلسات استماع مطولة لهم حتى أحصل على ثقتهم وموافقتهم وأسجل في النهاية أو تحول ظروف وأقدار دون ذلك، فالأمر بحاجة إلى مثابرة وتأن لأننا في النهاية لا نهدف إلا لتقديم الحقيقة إلى الناس وللأجيال القادمة ولابد من وجود حماسة لدى الشاهد للقيام بذلك.

كانت نقطة القوة لدى هيكل في العرض الذي قدمته له هي «الجزيرة» التي كانت حديث الدنيا وشاغلة الناس في ذلك الوقت وهيكل رجل تعود أن يكون في الأضواء الباهرة والتليفزيون حسر الأضواء عن الكلمة المكتوبة إلى حد كبير، لذلك فإن طلته على الجزيرة كانت ستنقله إلى عالم آخر وأجيال أخرى لا تعرفه ولم تكن تقرأ مقالاته وكتبه، هذا كان عنصر القوة الرئيسي في العرض، أما الموانع لديه فكانت دون شك طريقتي في التحقيق مع الشهود، فالبرنامج ليس مساحة لسرد القصص والحواديت التي يعشقها هيكل ويتميز بها في كتاباته وأحاديثه وإنما هو تحقيق مع شاهد في مواقف وأحداث محددة شارك في صناعتها أو كان شاهدا عليها، واذكر هنا أنه بعد لقائي الأول مع هيكل تعرفت على مصدر قريب منه تعامل معي بتقدير واحترام بالغ، وأكد لي أنه يحترم عملي ومهنيتي ويتابع برامجي باهتمام، وسوف يحرص على أن يقنع الأستاذ بالمشاركة معي في البرنامج.. شكرته وبقيت على تواصل معه، وبعد حوالي ستة أشهر تواصلت مع الأستاذ هيكل مرة أخرى، والتقيت معه في مكتبه، لكني قبل اللقاء علمت من مصدري أن هيكل كان يتابع برامجي لاسيما شاهد على العصر بشكل منتظم خلال الفترة الماضية، وأذكر أني حينما التقيت هيكل سألته سؤالا في هذا اللقاء ضمن نقاش أجريته معه حول مقالتيه عن الحسن الثاني اللتين نشرتا في مجلة وجهات نظر التي صدرت في شهري نوفمبر وديسمبر عام 1999 لاسيما عن دقة سرده للأحداث والتفصيلات، وقلت له أعرف أن الأستاذ جميل مطر كان يرافقك في كثير من الزيارات وكان يكتب محاضر الجلسات لكن ما تكتبه يتجاوز أحيانا نصوص محاضر الجلسات، فكيف تستطيع حفظ تفاصيل ما وراء الحوار لسنوات طويلة؟ كان سؤالي ذا مغزي قصدته وكان هيكل من الذكاء ليفهمه، فالحبكة القصصية تستدعي إضافات وتفصيلات وربما أحداثا تتجاوز ما يجري في اللقاءات، لهذا أخرج هيكل مباشرة ورقة وردية اللون مطوية وأعطاها لي وقال انظر إلى هذه؟ نظرت فوجدت ورقة زيارة بها خانة للاسم والتاريخ ومساحة لكتابة رؤوس عناوين كان عليها اسمي وتاريخ زيارتي والموعد، ثم قال الأستاذ بذكاء لم يجب به على سؤالي، بعدما تخرج سأكتب أهم ما دار بيننا في هذه الورقة، ثم تبقى في الأرشيف إلى أن أحتاج إليها..

التقيت مرة ثالثة مع الأستاذ هيكل وكان اللقاء سريعا هذه المرة فقد حرصت أن أعرف موقفه النهائي من التسجيل معه لكنه ظل كعادته ممسكا بالعصا من الوسط فقد كان يبدي رغبة وقبولا من حيث المبدأ لكن في نفس الوقت يطلب مزيدا من الوقت للدراسة والتفكير.

مقالات ذات صلة

هنا تواصلت مع المصدر الذي كان مقربا منه والذي كنت أتواصل معه من آن لآخر وطلبت منه أن يكون صادقا معي في تبيان موقف الأستاذ، صمت المصدر قليلا ثم قال لي: سأكون صادقا معك والقرار النهائي لك، باختصار شديد الأستاذ يريد الظهورعلى شاشة الجزيرة فهذه ستنقله إلى عالم آخر وجماهير أخرى أكثر رحابة وسعة من الكتابة وهو يحب ذلك، لاسيما بعدما كتب مقاله الشهير عن الاستئذان بالانصراف، وقد فهم الناس أنه يريد الاسئتذان بالانصراف من الحياة العامة لا، ولكن بالأنصراف من عالم الكتابة إلي عالم آخر جديد هو عالم التليفزيون، لكن على نفس طريقة الكتابة.

قلت له: كيف أرجو أن توضح لي ؟ قال: حينما يكتب الأستاذ يكتب ما يريد لا يناقشه أحد ولا يتداخل معه أحد ولا يكذبه أحد ولا ينفي كلامه أحد ولا يأتي أحد له برواية أخرى وهو يريد أن يكون ظهوره التليفزيوني على نفس النحو يحدد موضوعاته و يقول ما يريد دون أن يتداخل معه أحد أو يناقشه أو يحرجه أحد، فالأستاذ يحب أن تبقى صورته لدى نفسه ولدي الناس في البرواز الذي صنعه لها وأن من يمد يده للصورة أو البرواز يمدها ليزينها بوردة أو إكليل من الزهور، لكن الحوار معك لا يخدش الصورة فقط بل سوف يشوهها وهذا ما يرفضه الأستاذ، وما شغل الأستاذ في متابعة حواراتك و ما أقلقه هو أنه وجدك تحقق مع الشهود وتحرجهم وتأتي بالروايات المختلفة ولن يقبل الأستاذ مطلقا أن يوضع في هذا الإطار، الأمر الآخر الهام هو موقفك من عبد الناصر فالأستاذ منزعج جدا من موقفك من عبد الناصر .. صمت المصدر قليلا ثم قال لي: لقد سألتني وقد أجبتك والقرار لك.

قلت له أشكرك على صدقك، قررت بعد ذلك التوقف عن الاتصال بهيكل وأن أتفرغ لشهود آخرين، وهذا ما فعله هيكل تماما نجح هيكل في صناعة فرصة وانتهازها للظهور على الجزيرة بالشكل الذي خطط له وهو أن يروي حكاياته دون أن يناقشه أحد أو يخالفه أحد أو يعترض عليه أحد وأن يبرزما يشاء ويخفي ما يشاء ورغم أنه عرض في البداية أن يتحدث في 50 حلقة أسبوعية أي لمدة عام إلا أنه لم يفوت هذه الفرصة التاريخية فأخذ يروي قصصه وحكاياته على شاشة الجزيرة سبع سنوات كاملة من أغسطس 2004 وحتى أكتوبر 2011.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى