للعميان فقط

للعميان فقط

بقلم: م. #أنس_معابرة

ربما يكونون قلة قليلة من حرمهم الله من نعمة #البصر لأسباب خَلقية أو لحوادث تعرضوا لها خلال حياتهم، وعلى الرغم من قلتهم؛ إلا أنهم تميزوا بالكثير من #الإبداع والعطاء، فمنهم الكتاب والأدباء والمؤلفون والموسيقيون والمدرسون والأئمة والوعاظ وغيرهم الكثير.

ربما يكتب أحدنا عن #المعاناة التي يعانيها #المكفوفون في حياتهم نتيجة عجزهم عن إبصار ما حولهم، ولكن لن يستطيع أحدنا بأي شكل من الأشكال أن يتوصل الى حقيقة تلك المعاناة، لأنه لم يعشها.

في كتاب “الأيام” للكاتب المصري الكبير طه حسين رحمه الله، والذين يمكن تصنيفه على أنه السيرة الذاتية الوحيدة التي لا يسعى كاتبها الى تلميع صورته أمام الناس، وأن يحتال لكي يظهر حسناته ويخفي سيئاته، ولكن طه حسين بالإضافة الى حنكته الأدبية؛ كان صادقاً وشفافاً وصريحاً في الكتاب، وأظهر العيوب قبل الحسنات.

في ذلك الكتاب يصف الكاتب طفولته وشبابه وتعلّمه وحياته، ولكن الوصف كان سمعياً فقط، يركز على كل ما يسمعه ويصفه بدقة، يتعرف الى الأشخاص أو الحيوانات من أصواتها، ويحدد المسافات من الأصوات الصادرة منها، ويُحس بمشاعر من حوله من خلال الآهات أو الضحكات التي تصدر عنهم.

لك أن تتخيل حجم تلك المعاناة التي يتكبدها من حُرم من نعمة البصر، وكيف تكون حياته محصورة في أذنيه، وبعد ذلك يترك لخياله الجامح أن يرسم الأشكال التي من الممكن أن تصدر عنها تلك الأصوات.

من الهم أن ندرك أن الضرير هو إنسان قبل كل شيء، ومن الواجب على المجتمع وأفراده أن يتقبلوه بينهم، وألا تكن تلك المحنة التي أصابه الله بها سبباً لحرمانه من التعليم أو الصحة أو الوظيفة، أو أن تكون حاجزاً بينه وبين اللعب مع أقرانه، أو حتى سبباً لتعرضه للإستهزاء والسخرية من قِبل الآخرين.

ربما لن تصل كلماتي هذه الى مكفوفين، لأن عدد من قابلتهم في حياتي منهم لا يتعدون أصابع اليد الواحدة، ولكن أقول لكل منهم أنت واحد منا، وانت لك من الحقوق مثل ما لنا، وعليك من الواجبات مثل ما علينا.

لا تأخذ المحنة التي ألمت بك على أنها سبب للتخاذل والتراجع والجلوس في المنزل، أو الإكتفاء بالتسول على أبواب المساجد وإشارات المرور وعتبات المولات، بل ربما تكن منحة من الخالق عز وجل قد أعطاك إياها ليختبر صبرك وحسن تدبيرك للأمور.

في طفولتي كان إمام مسجدنا ضريراً، وكان يقرأ الخطبة عبر أوراق بلغة بريل، كنت أركز كثيراً في أدائه، حيث كان أفضل بكثير من المبصرين الذين يقرءون خطبهم من الأوراق، وتضيع نظراتهم بين كلمات الخطبة ووجوه الحاضرين، وربما نسي سطراً من الخطبة وتجاوزه الى ما بعده، بينما كان شيخنا الكفيف يُقبل بوجهه على الحضور، ويلتفت اليهم وكأنهم يراهم.

وفي أحد الأيام؛ تعطل جهاز ضخ الماء في المسجد، وعجز عن إصلاحه العديد من الناس، وجاء الإمام وبدأ في العمل باللمس، الى أن دُهشنا جميعاً ونحن نشاهد الماء وقد تدفق من البئر غزيراً.

لن يتوقف مسلسل الأبداع لدى من فقدوا البصر عند بتهوفن أو طه حسين، بل سيمتد عبر التاريخ، وسيظلون يتحفوننا بين الحين والآخر بإبداعهم وتألقهم.

وواجبنا نحن أن نقف الى جانبهم، وأن نساعدهم على تجاوز آثار محنتهم النفسية، والأهم هو ألا نسخر من عجزهم عن القيام ببعض الأمور مثلنا، فلقد حرَّم أبو العلاء المعري الدبس على نفسه عندما سخر منه أحد الناس بسب إسقاطه لقطرة منه على ثوبه، وتجنب طه حسين أكل الأرز حتى وصل الى الخامسة والعشرين من عمره.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى