لغتنا_الجميلة

#لغتنا_الجميلة

د. #هاشم_غرايبه

من أهم ميزات اللغة أنه لا يوجد بها ألفاظ مترادفة، بل ألفاظ متقاربة في المعنى ولكن متباينة في الدلالات، فلكل لفظة معنى مغاير لما للأخرى.
فقد نستعمل للدلالة على الحضور عدة ألفاظ مثل : جاء، أتى، قَدِم، حضر، فاء، أَقْبَلَ, حَضَرَ, زارَ, طَرَق, غَشِيَ, وافى, وَرَد, وَفَدَ، وصل، عاد.
كل لفظة منها تدل على حالة مختلفة من الحضور، وسأعرض تاليا للفرق بين دلالتي : جاء وأتى، حيث أنهما ذكرتا في القرآن الكريم، ومن أكثر ما يجري التساؤل حوله هو دلالات ورودهما في الآية الكريمة: ” يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا” [مريم:43]، كما وردتا مرة أخرى في قوله تعالى: ” أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ” [المؤمنون:68].
فلماذا كانت (جاء) في البداية ثم (أتى) بعدها؟، وتكررت الحالة في الآيتين بالصياغة ذاتها، فلا شك أن لذلك معنى مرادا.
نلاحظ دائما أن القرآن الكريم يستعمل المجيء لما هو أصعب وأشق مما تستعمل له (أتى) فهو يقول مثلا: “فَإذا جَاءَ أَمْرُنا وَفارَ التّنّورُ” [المؤمنون:27]، كما يقول “وجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالحَقّ” [ق:19].
فيما يقول: ” هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ” [الغاشية:1]، و”هَلْ أَتَىٰ عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا” [الإنسان:1]، فالحالة هنا مجرد حديث وليس الفعل ذاته، بينما في حدوثه فعلا استعمل تعالى لفظة (جاء): “فإذا جاءَت الطّامّةُ الكُبْرَى” [النازعات:34].
ونحو ذلك قوله تعالى: “حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ” [يوسف:110] ، وقوله: “وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُواعَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَأِ الْمُرْسَلِينَ” [الأنعام:34] ،فقال تعالى في آية يوسف “جاءَهُمْ نَصْرُنا” وفي آية الأنعام: “أتاهُمْ نَصْرُنا”.
إذا دققنا في الحالتين، نجد أنه في الأولى (َظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا)، أي قد بلغ الرسل حد اليأس وقاربوا على الشك في أن الله معهم، بينما في الثانية فكان التكذيب من قومهم، إلا أنهم لم يفقدوا الأمل بنصر الله فصبروا حتى أتاهم نصره.
ومن الواضح أن الحالة الأولى أشق وأصعب، وذلك أن الرسل بلغوا درجة الاستيئاس وهي أبعد وأبلغ من تكذيب الناس لهم، فلذلك (جاء) النصر في آية سورة يوسف، بينما (أتى) في سورة الأنعام.
وقد يقول قائل: يقول تعالى في سورة الأنعام الآية:31 ” قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَاعَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا”، ثم يقول في الآية:41 “قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ”، فقال في الآية الأولى: “جاءَتْهُم السّاعَةُ” وقال في الثانية: “أَتَتْكُم السّاعَةُ” والساعة واحدة فما الفرق؟.
فإن الأولى في الآخرة وفي الذين كذبوا باليوم الآخر، وهم نادمون متحسرون، وتوضحه الآية قبلها وهي قوله تعالى: ” وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواعَلَى رَبِّهِمْ ..”، في حين أن الثانية في الدنيا بدليل أنه يكشف ما يدعون إليه إن شاء، والدعاء لايستجاب إلا في الدنيا، ولا يستجيب لهم البتة في الآخرة.
فالموقف الأول أشق وأشد مما في الثانية، لذلك كان الفعل (جاء) دون (أتى) بخلاف الآية الثانية.
يقول د. فاضل السامرائي في تعليله لذلك، إن الفعل (جاء) أثقل من (أتى) في اللفظ بدليل أنه لم يرد في القرآن فعل مضارع لـ (جاء) ولا أمر ولا اسم فاعل ولا اسم مفعول، ولم يرد إلا الماضي وحده بخلاف (أتى) الذي وردت كل تصريفاته، فقد ورد منه الماضي (أتى)، والمضارع (يأتي)، والأمر (آتِ)، واسم الفاعل (الآتي)، واسم المفعول (مأتي).
وعليه فهنالك تناسب بين ثقل اللفظ وثقل الموقف في (جاء )، وخفة اللفظ وخفة الموقف في (أتى) .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى