#لغتنا_الجميلة

#لغتنا_الجميلة

د. #هاشم_غرايبه

#الفصاحة موهبة لغوية ارتبطت بالعرب، وتمتاز بالقدرة على إيصال المعنى المراد، وبدقة متناهية مع المحافظة على البلاغة والتي هي استعمال أقل قدر من #الألفاظ الجزلة والعبارات القوية المؤدية للمعنى.
وكان أجلى صورة لها ما سميت بالتوقيعات، وهي إحدى الفنون البلاغية التي تميزت بها مرحلة النضج الأدبي في عصور ازدهار الدولة الإسلامية الأموي والعباسي والأندلسي، وعرفت على أنها جملة أو فقرة قصيرة، محكمة وبليغة يكتبها الحاكم أو المسؤول في ذيل الكتاب أو العريضة الموجهة إليه، وتعطي معنى شاسعا، يغني عن خطاب طويل.
ازدهر هذا الفن في أوج ازدهار الدولة الإسلامية، واهتم به الخلفاء العباسيون لأنه كان معيارا لفصاحة الخليفة وتبحره في اللغة، فأنشأوا في ديوان الإنشاء ما سمي بقلم التوقيعات.
لا شك أن نشأة هذا الفن اللغوي قديمة قبل الإسلام، لكن استعماله بشكل مكثف بدأ مع الخلافة الراشدة، وكان ذلك متوافقا مع حقيقة أن الخلفاء الراشدين كانوا على أعلى درجات الفصاحة والتمكن اللغوي. فقد ورد كتاب من خالد بن الوليد من دومة الجندل يسأل أبا بكر أمرا عن العدو، فوقّع عليه: “أدنُ من الموت توهب لك الحياة”.
كما وقّع عمر بن الخطاب على كتاب من سعد بن أبي وقاص يستأذنه في بنيان يبنيه: “ابن ما يُكنك من الهواجر ويقيك من المطر”، وعلى كتاب من عمرو بن العاص: ” كن لرعيتك كما تحب أن يكون لك أميرك”.
ورد كتاب الى عثمان بن عفان من رجل يطلب فيه العون، فوقع له: “أمرنا لك بما يقيمك، وليس في مال الله فضل لمسرف”، على أن توقيعات علي بن أبي طالب كانت في غاية البلاغة، فقد وقع في كتاب جاءه من الحسن: ” رأي الشيخ خير من مشهد الغلام” ، كما وقع في كتاب لسلمان الفارسي يسأله كيف يحاسب الناس يوم القيامة: “يحاسبون كما يرزقون”.
في العصر الأموي ازداد الإهتمام بالتوقيعات، واشتهر معاوية بها، ومنها توقيعه في كتاب عبدالله بن عامر يسأله فيه أن يقطعه مالاً في الطائف فرد عليه: “عش رجبا ترى عجباً”، والتي ذهبت مثلا، كما رد على ربيعة بن عسل اليربوعي الذي طلب أن يعينه في بناء داره بالبصرة باثني عشر ألف جذع: “أدارك بالبصرة أم البصرة في دارك؟”.
كما وقع عبد الملك بن مروان في كتاب الحجاج الذي يشكو إليه سوء طاعة أهل العراق ويستأذنه في قتل أشرافهم: “إن من يُمن السائس أن يأتلف به المختلفون، ومن شؤمه يختلف به المؤتلفون”.
وكتب بعض العمال الى عمر بن عبد العزيز يستأذنه في مرمّة مدينته فوقع أسفل كتابه: ” إبنها بالعدل ونق طرقاتها من الظلم”، وكتب إليه صاحب العراق يخبره عن سوء طاعة أهلها: “إرض لهم ما ترضاه لنقسك، ثم خذهم بجرائمهم بعدها”.
ووقع هشام بن عبد الملك في عريضة متظلم: ” أتاك الغوث إن كنت صادقا، وحل بك النكال إن كنت كاذبا، فتقدم أو تأخر”.
في العصر العباسي شهد أدب النثر العربي ذروة جماله، واهتم الخلفاء بفن التوقيع وأنشأوا له ديوانا، فكان الكاتب يعرض الكتاب على الخليفة ويجيب عليه بتوقيع.
ومن ذلك توقيع أبي جعفر المنصور في شكاية رجل الى بعض عماله: “إكفني أمره وإلا كفيته امرك”، كما وقع المنصور الى بعض عماله: “قد كثر شاكوك وقل شاكروك، فإما اعتدلت وإما اعتزلت”.
واشتهر أبوجعفر البرمكي بجمال التواقيع أمام الرشيد، ومنها: “الخراج عمود المُلك، وما استعِزّ بمثل العدل، وما استدبر بمثل الجور”، ووقع الرشيد الى صاحب خراسان: “داوِ جرحك لا يتسع”.
هذا ما اتسع له المقال، ومجرد نماذج من توقيعات مدادها الحكمة وبناؤها البلاغة .. تفردت بها اللغة العربية، وتعطي دليلا آخر على تميزها، سعة وجمالاً.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى