لغتنا الجميلة

#لغتنا_الجميلة
د. هاشم غرايبه
أجمل #الكلام ما يُقال عند جيشان العاطفة، فهو يخرج من حشاشة #القلب صافيا، فيصل الى الأسماع نقيا خالصا من الزيف والتكلف.
ولغتنا #العربية باتساع معانيها وتعدد ألفاظها، خير وسيط ناقل، ينقل #المعاني بأعلى درجات الوضوح، فلا غرو أنها وسعت كتاب الله لفظا وغاية.
الاستعطاف هو طلب العطف من الأدنى الى الأعلى، من ذي الحاجة الى المعطي، لذلك يتم فيه اختيار أرق العبارات وأكثرها استجلابا للعطاء.
فلو تمعنا في المعاني الواردة في استعطاف إبراهيم عليه السلام لربه حينما استودعه فلذة كبده وزوجته هاجر، الواردة في قوله تعالى على لسان إبراهيم: “رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ” [ابراهيم:37]، سنستشعر رقة العبارات، الى جانب عظمة الإيمان وما يحدثه في النفس البشرية من ارتقاء وسموٍّ عن أقوى النزعات الإنسانية.
فها هو الشيخ الجليل، يترك ابنه الوحيد الذي شاب وانحنى ظهره حتى رُزق به، وما أن رآه وأصبح بين ذراعيه مالئاً شغاف قلبه حباٌ وحياته بهجةً، حتى أتاه الإمتحان الأول، أن يُبعد هذا الوليد الى أقصى الأرض فيتربى بعيدا عنه، لكنه اجتاز هذا الامتحان الصعب بفضل قوة إيمانه فصدع بأمر ربه، مثلما اجتاز الثاني الأعظم حينما اصبح ابنه فتى، وأمره ربه بذبحه بيده.. فأي بشر يمكنه ذلك!؟، إذ ذاك استحق أعلى منزلة نالها إنسان…اتخذه ربه خليلا.
لكنه يبقى إنسانا، يعتوره ما يعتور كل البشر، فكانت هذه المناجاة المؤثرة لربه وهو يترك حبيبي قلبه في أرض خلاء موحشة، ليس فيها زرع ولا ضرع.
عندما يقول “ربنا” بالجمع وليس “ربي” كما تفترضه كلمة” إني” المفردة، فذلك ليشمل زوجته وابنه بالفعل، أي أنهما شاركا ابراهيم في طاعة الله بالإمتثال لأمره، فيستعطف الله جزاء طاعتهم، ليحفظهم مثلما حفظه سابقا عندما أنجاه من نار النمرود.
وعندما يقول: “من ذريتي” فهو يعني اسماعيل، لأنه في لم يكن له ابن غيره آنذاك، لذلك فكان هو كل ذريته، فجاء بـ (من) التي تعني التبعيض، ففي ذلك استعطاف ضمني مبني على حسن ظنه بالله أن يرزقه أبناء آخرين.
“واد غير ذي زرع”: إن “ذي” تعني الملكية وكأنه يقول أن الوادي لا يملك زرعا ولا ثمرا، لذلك فهو يستعطف الله الذي يملك خزائن كل شيء، أن يمنح هذا الوادي الفقير زرعا، لكنه يعلم أن أرضه صخرية قاحلة لا تنبت زرعا أصلا، لذا فليس من سبيل إلا أن ييسر الله سبل الرزق، فيصله من كل الثمرات نقلا وليس زرعا، واستجاب له ربه: “أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَىٰ إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِّزْقًا مِّن لَّدُنَّا” [القصص:57].
في قوله:”عند بيتك المحرم” هو بيان التزامه بإسكانهم بالمكان ذاته الذي حدده الله، وليس وفق اختياره، ثم يبين أنه يعلم الحكمة من اختيار هذا المكان ..إنه “ليقيموا الصلاة”.
في العبادة تؤدى الصلاة، لكن إقامها تعني الدعوة لها، ذلك يعني أنه عليه السلام قد أُوحيَ له أن حكمة انتقال إسماعيل وليدا، لكي يختلط نسبا بأهل المنطقة، ولكي تنتج ذرية مؤمنة في هذه الأرض، ومنها يخرج خاتم النبيين وآخر الرسالات.
وفعلا استجاب كثيرون لدعوة اسماعيل عليه السلام، وتنوقلت رسالته عبر أجيال، لكنها كباقي رسالات ذرية إبراهيم عدا الختامية، لم يشأ الله أن تُحفظ فضاعت تفاصيلها، وحوّلها طول الأمد الى وثنية، يعبد الناس رموزا مرئية (أصناما)، لتقربهم الى عبادة الله غير المرئي، وظل أفراد محدودون على التوحيد مثل ورقة بن نوفل وأمية بن أبي الصلت وسويد بن صامت الأوسي وغيرهم.

وفي قوله:” فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ” قمة البلاغة حيث استعار الجزء المتخصص بالميل والهوى (الفؤاد) ليعبر عن الكل (الإنسان)، لكنه استعمل “من” وهي للتبعيض، لكي يكون هنالك فئة مختارة وهم المؤمنون، وليس كل الناس الذين فيهم البرُّ والفاجر، فنرى الحجيج والمعتمرين، أفئدتهم تسبقهم لهفة واشتياقا لبيت الله المحرم.
هذا النزر اليسير من معاني ودلالات ألفاظ آية واحدة من آيات القرآن العظيم، هو ما اتسع له المقال وليست جميعها، لكنها تدلل على جمال اللغة العربية وسعة بيانها.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى