#لغتنا_الجميلة
د. هاشم غرايبه
#القرآن_الكريم هو خير ما نبحث فيه عن جماليات #اللغة_العربية، وبدائع معانيها.
ففي قوله تعالى في ختام سورة الجاثية: “فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَلَهُ الْكِبْرِيَاء فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ”.
أول ما يستوقف المرء التساؤل هنا عن الحكمة في قوله تعالى ” فَلِلَّهِ الْحَمْدُ “، بينما يقول في أول سورة الفاتحة “الحمد لله”، فما دلالات التقديم والتأخير هنا، وبماذا خدمت المعنى المراد؟.
بداية يجب التفريق لغويا وبيانيا بين ثمانية ألفاظ متقاربة في المعنى لكن مدلولاتها متباينة، وهي: الشكر، والثناء، والمدح، والإطراء، والعرفان، والتقدير، والإمتنان، والحمد.
جميع الألفاظ تستخدم للتعبير عن شعور شخص بالرضا تجاه فعل أو قول أو طبيعة شخص آخر، وهذا الرضا كان فيه من الإنعام على الشخص المنعم عليه مما دعاه الى قول ما يرضي المنعم مكافأة لنعمه.
فالشكر هو الجزاء على تلك النعمة، والثناء الإشارة الى فضل تلك النعمة، والمدح ذكر المنعم بخير صفاته وأفعاله، والإطراء المبالغة في المدح، والعرفان اعتراف بالفضل، والتقدير هو شعور بالإمتنان، والإمتنان اعراب عن مدى نفعها، أما الحمد فهو شامل لكل ما ذكر.
من جميل ما ذكره د. فاضل السامرائي في معاني الحمد أنه الثناء على الجميل من النعمة أوغيرها مع المحبة والإجلال، فالحمد أن تذكر محاسن الغير سواء كان ذلك الثناءعلى صفة من صفاته الذاتية أم على عطائه وتفضله على الآخرين، والحمد لا يكون إلا للحي العاقل، فقد تمدح جمادا ولكن لا تحمده، والمدح قد يكون قبل الإحسان وبعده، أما الحمد فلا يكون إلا بعد الإحسان .
ولم يقل سبحانه الشكر الله لأن الشكر لا يكون إلا على النعمة ولا يكون على صفاته الذاتية التي بوجودها تتحق النعم، فكان اختيار الحمد أولى من المدح والشكر.
ولم يقل تعالى: أحمد الله أو نحمد الله، لأنه حينذاك يكون الفعل مختصا بفاعل محدد لكن “الحمد الله” لا تختص بفاعل معين فهو المحمودعلى وجه الإطلاق، غير مقيدة بزمن معين ولا بفاعل معين فالحمد فيها مستمرغير منقطع.
وقد ذكر الرازي أنه لو كانت “أحمد الله” فمعناها أن الحمد بقدرة الحامد وإرادته، أما “الحمد لله” فتعني أنه تعالى كان محمودا قبل حمد الحامدين وقبل شكرالشاكرين فهؤلاء سواء حمدوا أم لم يحمدوا، فالحمد متحقق أصلا.
أما لماذا لم يقل “حمداً لله”؟ فلأن الحمد لله مُعرّفة بأل و” حمداً ” نكرة، ذلك أن “أل” قد تكون لتعريف العهد فيكون المعنى: أن الحمد المعروف بينكم هو لله، وقد يكون لتعريف الجنس على سبيل الاستغراق فيدل على استغراق الأحمدة كلها.
ولو جاءت “الحمدَ الله” بالنصب لكانت تدل على أن الجملة فعلية بتقدير نحمِدُ أو أحمَدُ أو احمدوا بالأمر، لكنها جاءت بالرفع لتدل على أن الجملة اسمية إنشائية دالة على الثبوت، وليست خبرية تحتمل الصدق وعدمه.
ولم تأت ِ بفعل الأمر (احمدوا الله)، لأن المأمور بالشيء قد لا يكون مقتنعا بما أُمِر به، وقد لا يكون متهيئاً لأدائه أو مستحقاً للفعل.
بعد أن فهمنا معنى الحمد ودلالات الصيغة الواردة ننتقل الى التأمل في الدلالات التي استوحيناها من التقديم والتأخير الوارد في الآيتين.
إن المقام في سورة الفاتحة هو مقام مؤمنين يطلبون الاستعانة والهداية، ويُقِرّون أصلا بأن الله هو خالق كل شيء، فلا لزوم لإقناعهم بذلك، أما في سورة الجاثية فالمقام في الكافرين وعقائدهم، لذا اقتضى ذكر تفضله سبحانه بأنه خلق السموات والأرض (التسمية القرآنية للكون)، وذكرهم بذلك أربع مرات:
الآية 3: “إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّلْمُؤْمِنِينَ”
الآية 22: “وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ..”
الاية 27: “وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ..”
وبعد ذلك كله، تأتي الآية 36: “فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ”، استنتاجا منطقيا لكل ما سبقها، فالله هو المحمود الأول، كونه خالق الكون كله، والأرض التي هي جزء منه، والبشر الذين يقطنون جزءا منها، أليس هو إذاً رب كل ذلك!؟ لذا جاء تقديم لفظ الجلالة، على كل شيء ..حتى على حمده تعالى.