لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها….
د. حفظي اشتية
ضاقت صدورنا وأخلاقنا، وأصبحنا صرعى التوتر: نحن متوترون في البيوت والعمل والشوارع والأسواق، متوترون في #الصيام وفي الإفطار، في الصيف وفي الشتاء، في الصباح وفي المساء، العاطلون عن العمل متوترون والعاملون كذلك، #الموظفون متوترون والمسؤولون عنهم متوترون أكثر منهم، المدينون متوترون والدائنون أيضاً، المؤجرون متوترون والمستأجرون مثلهم…..ويطول بنا الأمر لو مضينا نعدّد، لكننا نؤكد أن معظمنا يعاني من حالة توتر تستنزف أعصابنا، وتنغص حياتنا، وتستنفد طاقاتنا.
كلمة انفعالية عابرة تجعل وطناً كاملاً يقف على قدم واحدة، وكأننا قبلها كنا ننعم بكل ما نتمناه ونطمح إليه في حالة صفو عام تام لا يكدره كدر ولا تشوبه شائبة!!
إن كانت تلك الكلمة خطأً فلعلّ القرار كان خطأً أكبر، وإن كان القرار خطأً فلعلّ ردة الفعل كانت أدهى وأمرّ وأخطر، فلا يعقل أن نصحو فجأة في القرن الحادي والعشرين على صرخات دريد بن الصمّة:
وما أنا إلّا من غزيّة إن غوت غويت وإن ترشد غزيّة أرشد!
كان الصحيح أن نضبط جميعا انفعالاتنا وننتقي كلماتنا فلا نخطئ، فإن وقع الخطأ وجب أن يعالج بتأن وحكمة دون صخب أو جَلَبَة ليكون القرار صائباً، فإن صدر قرار خاطئ كان ينبغي أن يُلجأ إلى الطعن فيه بهدوء وروية ضمن القنوات الرسمية والقضائية …. ألسنا في خِضم الاحتفال بمئوية الدولة #الاستقلال؟!!
نعم، إننا متوترون. فما العمل؟
لعلّ الأولى هو السعي الدؤوب الجاد إلى إزالة أسباب التوتر، وهذا أمر يطول الحديث فيه، وهو مسؤولية مجتمعية عامّة تقع على عاتق الدولة والمواطنين معاً، والركن الأساسي في ذلك هو العدالة ثم العدالة ثم العدالة.
بالعدالة تُبنى الأوطان، وبالظلم يعمّ الخراب والفساد والهدم. استهدوا بالقرآن الكريم بهذا الشأن، ثم اسألوا ابن خلدون، واستقرئوا أفكاره التي أهملناها، والتقطها الغرب فأقام عليها حضارته.
وأمّا إنْ كثرت العوائق في طريق إزالة أسباب التوتر، فعلينا أنْ نتكيّف مع مرارة الواقع ونوطّن النفوس على الصبر والتحمّل والتسامح حتى نستطيب العيش، بل حتى نستطيع العيش:
” إذا ضاق صدر المرء لم يصفُ عيشهُ ولا يستطيب العيش إلّا المسامحُ”
الدين يدعونا إلى ذلك، ويزينه في نفوسنا، فكم من آيةٍ تحث على الصبر ودفع السيئة بالحسنة وإلانة الجانب وحُسن العشرة…!!
وكم من موقف عظيم لرسولنا الكريم خطَّ لنا به أحمد السنن وأحكم القيم في التعامل!!
أمّا إن كانت عروبتنا هي التي توجه سلوكنا فلا بأس في ذلك، فكم من مكارم أخلاق تحلّى بها العرب منذ جاهليتهم جاء الإسلام ليتممها !! ومنها الحِلم والتسامح.
“قيل للأحنف بن قيس التميمي وكان من أعظم الحلماء: ممن تعلمت الحلم؟ فقال: من عمّي قيس بن عاصم رأيته يوماً قاعداً بفناء داره، محتبياً بحبائل سيفه، يحدّث قومه، إذ أُتي برجل مكتوف وآخر مقتول فقيل: هذا ابن أخيك قتل ابنك. قال: فوالله ما حلّ حبوته، ولا قطع كلامه، فلما أتمّه التفت إلى ابن أخيه فقال: يا ابن أخي، بئس ما فعلت، أثمت بربك، وقطعت رحمك، وقتلت ابن عمّك، ورميت نفسك بسهمك، وقللت عددك.
ثم قال لابنٍ له آخر: قم يا بني إلى ابن عمّك فحل كتافه، و وارِ أخاك، و سُق إلى أمك مائةً من الإبل دية ابنها فإنها غريبة”.
فيا عجباً لهذا الخلق الكريم والحلم العظيم ! كان سيف قيس في متناول يده، فلم يبادر إلى قتل قاتل ابنه بذريعة فورة الدم.
وكان معن بن زائدة حليماً واسع الصدر فبُعث إليه رجل يستثير غضبه ليُعلم مدى صبره، فقال له الرجل يعيره بسابق فقره:
أتذكر إذ لحافك جلد شاةٍ وإذ نعلاك من خف البعير؟
قال معن: أذكر ذلك ولا أنساه. فقال الرجل:
فجُد لي يا ابن “ناقصة” بمالٍ فإني قد عزمت على المسير
فوهبه معن مبلغاً كبيراً من المال. فقال الرجل:
سأرحل عن بلاد أنت فيها ولو جار الزمان على الفقير
فرد معن: إن أقمت بيننا فعلى الرحب والسعة، وإن رحلت عنا فمصحوباً بالسلامة.
أمّا شطر البيت في عنوان المقالة، فهو للشاعر المخضرم المجيد عمرو بن الأهتم، ضمن قصيدة من حوالي عشرين بيتاً تمثّل لوحة أخلاقية راقية رائعة لقيم الطيب والسماحة والكرم التي تسكن النفس العربية منذ القِدم، وفيها هذا البيت الخالد:
لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها ولكن أخلاق الرجال تضيق
حقّاً: لقد اتسعت بلادنا خيراً وجمالاً وبطولات وأمجاداً وأخلاقاً، لكنّ أخلاقنا هي التي ضاقت، فماذا نعمل، وإلى أين نرحل؟؟!!