وراء الحدث

وراء الحدث
د. هاشم غرايبه

جاءت حادثة اغتيال أمريكا لقاسم سليماني حدثا بالغ الأهمية، ينبغي التوقف عنده بالتحليل العميق، لما للحدث بحد ذاته من دلالات تؤثر بشكل مباشر على أمتنا الإسلامية.
من حيث المبدأ فالعمل مدان، فأن تلجأ قوة عظمى الى الإغتيال فذلك ينمُّ عن الإستخفاف بالغير، الذي مبعثه الصلف والتجبر، وإلا فأي معنى يبقى للإرهاب واحتقار الحياة البشرية؟، وأية حضارة هذه التي يطالب الغرب الآخرين باتباعها والتسبيح بحمدها، إن كان التعامل مع الآخر يتم بمثل هذه الفوقية والعنجهية!؟.
لذلك وبمثل ما كنا ندين أفعال هذا الشخص الدموية ضد أمتنا وخاصة في العراق وسوريا، فإننا ندين اغتياله، فمن اغتاله مجرم أيضا لا تقل جرائمه دناءة عمن اغتاله.
لا شك أن عملية الإغتيال ليست هي المقصودة بذاتها، فالرجل يبقى منتجا من منتجات النظام الإيراني، ولن تعيقه خسارته، فهناك صفوف عديدة يمكن أن تعبئ الفراغ فورا، لكنها رسالة أرادت أمريكا أن ترسلها الى أكثر من جهة، وهذه الرسائل سيقرؤها كل معني بالأمر، وأهمها:
الأولى: موجهة الى النظام الإيراني ومفادها إستغناء أمريكا عن الخدمات المأجورة التي كانت موكلة إليه، بعد انتهاء الحالة التي تطلبتها، وهي ما سميت بالحرب على العراق، فقد أنجز الإحتلال واستتب الأمر لأمريكا، وكان دور إيران هاما في تخفيض خسائر هذا الإحتلال، وقبضت ثمنه إطلاق يدها في جعل كلمتها هي الأولى في اختيار أشخاص النظام.
لقد استغلت تلك المنحة أسوأ استغلال، فعاثت فسادا وتدميرا في بنية العراق الإجتماعية والإقتصادية، بدافع من الحقد القديم ضد العراق وشعبه، منذ أن كانت امبراطورية كسرى عاصمتها الحيرة فطردت منها.
كان الإنتقام لضياع ملك كسرى مبكرا بشق الإسلام بإيجاد عقيدة التشيع، لكن الفرصة لاحت مع اكتشاف نية أمريكا باحتلال العراق، فتطوعت لمعونتها واستغلت الثمن الدي نالته، فأوجدت طغمة من الفاسدين تقاسموا السلطة والمغانم وحولوا بلادهم الى دولة فاشلة.
كان يمكن لأمريكا صرف النظام الإيراني من الخدمة بعد انتهاء المهمة لولا أن الصهيونية المسيحية أرادات اهتبال فرصة وجود الأنظمة العربية العميلة، فأرادت استثمار التزامها بالتبعية، فقررت شن حملة صليبية جديدة أسمتها الحرب على الإرهاب.
هنا نشأ لإيران دور جديد، فهو كان ينتظر أية فرصة للإنقضاض على الإسلام السني، وهكذا تم تمديد المهمة، وكانت المكافأة هذه المرة أعظم لأن الدور أهم، فأعطي الإسلام الشيعي إعفاء من اتهامه بالإرهاب، نظير أن يكون رأس حربة ضد الإسلاميين، الذين استحلت دماؤهم في العراق وسوريا، وكان قاسم سليماني هو العقل المدبر لكل تلك المذابح، وأسندت إليه كل العمليات القذرة، فقام بفضائع تفوق بكثير ما قامت به أمريكا وحلفائها.
بعد أن حقق المهمات جميعها وبتفوق مبالغ فيه، كونه كان يمارسها بسادية وتلذذ، شاءت سادية القوى المتجبرة في المقابل أن تقطع عليه متعه هذه، وأن تستغل قدراتها التقنية، فاختارت له نهاية هوليودية مثيرة.
هكذا كان اغتياله هي رسالة أمريكية على نمط عقلية الكاوبوي، ومفادها: (Game is over) .
الرسالة الثانية: موجهة الى كل المتعاقدين الذين أحالت أمريكا إليهم مهمات محددة، فسلمتهم السلطة في بعض الأقطار، وعندما اطمأنوا الى أنهم باتوا في كنفها وتحت رعايتها، اندمجوا في الدور وارادوا تمثل دور الزعيم الملهم، فبدأوا يتحدثون عن رؤى لسنين قادمة، وكأنهم ضامنون لبقائهم في كراسيهم لتلك الفترة.
أرادت أمريكا أن تقول لهم بهذا الإغتيال، أن لايرفرفوا بأجنحتهم بعيدا..فخيطهم مربوط بكفها،
وعليهم الإلتزام بالمهام المحددة لهم، وعدم الخروج على النص المكتوب، وإلا فليعلموا أنهم لا يعجزونها، فهي ستطالهم ولو كانوا يتحركون وسط حراسة مشددة، ويبيتون في حصون مشيدة، فهي تملك الفضاء وعيونها ترقب كل شيء.
الرسالة الثالثة: موجهة الى القوى العالمية الصاعدة، والتي بدأت نهضة اقتصادية أطمعتها بأن تكون منافسة للقوة العظمى.
فتريد لهؤلاء الحالمين بنقل بلادهم الى موقع متحرر من هيمنة أمريكا، أن تبلغهم أنها لن تتوانى عن فعل أي شيء يؤمن مصلحتها من غير التفات الى الشرائع الدولية ولا الأعراف والمواثيق، فهذه وجدت لتقييدهم، لكن امريكا فوق القانون، ولا تسأل عما تفعل وهم يسألون.
هكذا يتأكد وفي كل مرة، أن الإعتصام بالجبابرة لا يعصم من أمر الله، فلا منجاة من ظلمهم إلا بالإعتصام به.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى