نعمة البصر ترجح على عبادة خمسمائة سنة

نعمة البصر ترجح على عبادة خمسمائة سنة/ ماجد دودين

في صحيح الحاكم حديث صاحب الرمانة الذي عبد الله خمسمائة سنة يأكل كل يوم رمانة تخرج له من شجرة ثم يقوم إلى صلاته، فسأل ربه وقت الأجل أن يقبضه ساجداً وأنْ لا يجعل للأرض عليه سبيلاً حتى يُبْعَث وهو ساجد، فإذا كان يوم القيامة وُقِف بين يدي الرب فيقول تعالى: أدخلوا عبدي الجنة برحمتي،
فيقول: ربّ بل بعملي،
فيقول الرب جل جلاله، قايسوا عبدي بنعمتي عليه وبعمله فتؤخذ #نعمة_البصر بعبادة خمسمائة سنة، وبقيت نعمة الجسد فضلاً عليه،
فيقول: أدخلوا عبدي النار، فيُجر إلى النار فينادي: رب برحمتك رب برحمتك أدخلني الجنة، فيقول: ردوه، فيوقف بين يديه، فيقول: يا عبدي من خلقك ولم تكن شيئاً؟
فيقول: أنت يا رب،
فيقول: من قوّاك على #عبادة_خمسمائة_سنة؟
فيقول: أنت يا رب،
فيقول: من أنزلك في جبل وسط اللجة وأخرج لك الماء العذب من الماء المالح، وأخرج لك كل يوم رمانة وإنما تخرج مرة في السنة، وسألتني أن أقبضك ساجداً ففعلت ذلك بك؟ فيقول: أنت يا رب،
فيقول الله: فذلك برحمتي وبرحمتي أدخلك الجنة).
قال ابن القيم رحمه الله: إسناده إلى النبي صلى الله عليه وسلم صحيح ومعناه صحيح لا ريب فيه، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لن ينجو أحد منكم بعمله) وفي لفظ: (لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله) قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: (ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل).
قال صلى الله عليه وسلّم: ((- قارِبوا وسَدِّدُوا، وأبْشِروا، واعلموا أَنَّه لَنْ ينجُوَ أحدٌ منكم بعملِهِ، ولا أنا، إِلَّا أنْ يتغمدَنِيَ اللهُ برحمَةٍ منه وفضلٍ
الراوي: أبو هريرة وجابر بن عبدالله | المحدث: الألباني | المصدر: صحيح الجامع | الصفحة أو الرقم: 4297 | خلاصة حكم المحدث: صحيح))
وفي رواية ((لَنْ يُدْخِلَ أحَدًا عَمَلُهُ الجَنَّةَ. قالوا: ولا أنْتَ يا رَسولَ اللَّهِ؟ قالَ: لا، ولا أنا، إلَّا أنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بفَضْلٍ ورَحْمَةٍ، فَسَدِّدُوا وقارِبُوا، ولا يَتَمَنَّيَنَّ أحَدُكُمُ المَوْتَ: إمَّا مُحْسِنًا، فَلَعَلَّهُ أنْ يَزْدادَ خَيْرًا، وإمَّا مُسِيئًا، فَلَعَلَّهُ أنْ يَسْتَعْتِبَ.))
الراوي: أبو هريرة | المحدث: البخاري | المصدر: صحيح البخاري – الصفحة أو الرقم: 5673 | خلاصة حكم المحدث: [صحيح]- التخريج: أخرجه البخاري (5673)، ومسلم (2816))
العَبدُ في سَيرِه إلى اللهِ تعالَى لا بُدَّ له مِنَ الجَمعِ بيْن الرَّجاءِ والخَوفِ؛ فإنَّ الخَوفَ وَحْدَه يؤدِّي إلى القُنوطِ واليَأسِ، ويُؤكِّدُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في هذا الحديثِ أنَّ العملَ لنْ يَدخُلَ أحدً الجنَّةَ، فسَأَله الصَّحابةُ رَضيَ اللهُ عنهم: «ولا أنتَ يا رسولَ الله؟ قال: لا، ولا أنا، إلَّا أنْ يَتغمَّدَني اللهُ بفضْلٍ ورَحْمةٍ»، أي: يُلبِسه إيَّاها، ويُغطِّيه بها، ولا تَعارُضَ بيْن هذا الحديثِ وبيْن قولِه سُبحانه: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل: 32]؛ لأنَّ التوفيقَ للأعمالِ، والهدايةَ للإخلاصِ فيها، وقَبولَها: إنما هو برحمةِ اللهِ وفَضْلِه، فيصِحُّ أنَّه لم يدخُلْ بمجَرَّدِ العمَلِ، وهو مرادُ الحديثِ، ويصِحُّ أنَّه دخل بسَبَبِ العَمَلِ، وهو من رحمةِ اللهِ تعالى.
ثمَّ قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «فسَدِّدُوا وقارِبُوا»، أي: اقْصِدُوا الصَّوابَ ولا تُفْرِطُوا فتُجهِدُوا أنفُسَكم في العبادةِ؛ لئلَّا يُفضيَ بكمْ ذلك إلى المَلَل، فتَترُكوا العملَ فتُفَرِّطُوا.
ثمَّ نهى النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن تمنِّي الموتِ؛ لأنَّ الإنسانَ الذي يَتمنَّى الموت إمَّا أنْ يكون عاصيًا ومُسيئًا، وإمَّا أنْ يكونَ طائعًا؛ فإنْ كان مُسيئًا فلعلَّ طُولَ حياتِه يُعطيهِ الفُرصةَ أنْ يَسْتَعْتِبَ، أي: يَطلُبَ رِضا اللهِ بالتَّوبةِ وردِّ المظالم وتَدارُكِ الفائتِ، وإنْ كان طائعًا فلعلَّ طُولَ حياتِه يكونُ سَببًا في زِيادةِ إحسانِه، فيَزدادَ أجرُه، وتَرتفِعَ مَنزلتُه يومَ القيامةِ.
وفي بعضِ الرِّواياتِ عند مسلمٍ أنَّ الإنسانَ يدعو فيقولُ: «واجعَلِ الحياةَ زيادةً لي في كُلِّ خيرٍ، واجعَلِ الموتَ راحةً لي من كُلِّ شَرٍّ»؛ وذلك لأنَّه إذا مات الإنسانُ انقطع أمَلُه وعَمَلُه، وزيادةُ العُمُرِ لا تزيدُ المؤمِنَ إلَّا خيرًا، فنهى عن تمنِّي الموتِ؛ لأنَّه في معنى التبَرُّمِ عن قضاءِ اللهِ في أمرٍ مَنفَعَتُه عائدةٌ على العبدِ في آخِرَتِه.
ثم ذكر الأثر الذي رواه الإمام أحمد (أن الله تعالى أوحى إلى داود: يا داود أنذر عبادي الصادقين فلا يعجبن بأنفسهم ولا يتكلنّ على أعمالهم فإنه ليس أحد من عبادي أنصبه للحساب وأقيم عليه عدلي إلا عذّبته من غير أن أظلمه، وبشر عبادي الخطائين أنه لا يتعاظمني ذنب أن أغفره وأتجاوز عنه).
والأثر الآخر أيضاً أن رجلاً تعبّد سبعين سنة، وكان يقول في دعائه: رب اجزني بعملي، فمات فأُدخل الجنة فكان فيها سبعين عاماً فلما فرغ وقته قيل له: أخرج فقد استوفيت عملك.
فقلّب أمره: أي شيء كان في الدنيا أوثق في نفسه؟ فلم يجد شيئاً أوثق في نفسه من دعاء الله والرغبة إليه، فأقبل يقول في دعائه: رب سمعتك وأنا في الدنيا وأنت تُقيل العشرات فأقل عثرتي فتُرك في الجنة.
وروى الإمام أحمد أيضاً أن موسى عليه السلام قال: إلهي كيف أشكرك وأصغر نعمة وضعتها عندي من نعمتك لا يُجازيها عملي كله؟ فأوحى الله تعالى إليه الآن شكرتني.
قال ابن القيم: لو فُرض أن العبد يأتي بمقدوره كله من الطاعة ظاهراً وباطناً فالذي ينبغي لربه فوق ذلك وأضعاف أضعافه، فإذا عجز العبد عنه لم يستحق ما يترتب عليه من الجزاء، والذي أتى به لا يقابل أقل النعم. إنتهى.
كيف إذا علم العبد يقيناً لا مرية فيه أن طاعته لربه أفضل وأجلّ نعمة أوتيها في الدنيا لا لما يترتّب على ذلك من ثواب الآخرة فقط وإنما لأن صلاحه ونعيمه وسرور قلبه في طاعة ربه في الدنيا، ولا تُدفع الهموم والغموم بغير ذلك.
ذكر ابن القيم أثر أنس بن مالك رضي الله عنه: (يُنشر للعبد يوم القيامة ثلاثة دواوين؛ ديوان فيه ذنوبه، وديوان فيه العمل الصالح، وديوان فيه النعم فيأمر الله تعالى أصغر نعمة من نعمه فتقوم فتسْتوعب عمله كله، ثم تقول: أي رب وعزتك وجلالك ما استوفيت ثمني، وقد بقيت الذنوب والنعم فإذا أراد الله بعبد خيراً قال: ابن آدم ضعّفت حسناتك وتجاوزت عن سيئاتك ووهبت لك نعمي فيما بيني وبينك). انتهى.
إن من يوفق لمعرفة ما تقدم لا يبقى له التفات إلى عمله ونفسه وإنما يجرّد تعلق رجائه برحمة ربه، وليس معنى هذا تقليل وتهوين شأن الأعمال الصالحة بل يجتهد فيها العبد باعتبار أنها سبب لا ثمن.
كذلك فهي غذاء القلب وقوته في الدنيا وهو مأمور بذلك.

اظهر المزيد

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى