العلاقة بين الفرد والكيان السياسي في التجربة العربية
(لا مواطنة …لا دولة مؤسسات)
لفهم شكل أو طبيعة العلاقة ما بين الفرد العربي والكيان السياسي أو الاجتماعي الذي ينتمي إليه في التجربة العربية، فلا بد من تتبّع الاتجاه العام لشكل وطبيعة الكيان السياسي في كل مرحلة تاريخية منذ ما قبل الإسلام مرورا بالدولة الإسلامية وحتى الدولة المعاصرة:
أولا: مرحلة ما قبل الإسلام:
1-نشأت، في الأراضي الخصبة على أطراف شبه الجزيرة العربية، العديدُ من الممالك العربية القائمة على توافق قبلي غالبا. وقد تداخل ولاء الفرد وانتماؤه في هذه الممالك للدولة والقبيلة معا في علاقة تبعية طبقية، تنفي مفهوم المواطنة، كما تنفي مفهوم دولة المؤسسات.
2-أما في وسط شبه الجزيرة العربية حيث انتشرت القبائل فقد سادت عصبية ضيقة للقبيلة؛ إذ الفرد ينتمي لقبيلته، ويدين لها بالولاء في علاقة تبعية طبقية. وهذه العصبية امتزجت بمشاعر عنصرية، حيث آمن أبناء كل قبيلة بتفوقهم العرقي على القبائل الأخرى، من خلال فخرهم بشرفهم ونسبهم الذي يدّعون أنهم يبزّون فيه سواهم.
ثانيا: مرحلة الدولة الإسلامية:
1-تراجعت العصبية القبلية في عهد الرسول (صلى الله عليه وسلم)، لصالح انتماء الفرد للإسلام كقيمة معنوية رمزية، دون ارتباطها بالعرق أو بالمكان بالضرورة، وأصبح مفهوم المسلم- كمصطلح جديد- يترجم انتماء وتمتّع الفرد بعضوية كاملة وفورية في المجتمع السياسي الجديد بالمعنى الايجابي (للمواطنة) الفاعلة. وبذلك فقد تمتع الفرد بمبادئ العدل والمساواة إلى مستوى غير مسبوق. كما ساد الشعور لدى الأفراد أنهم أحرار، ولديهم القدرة الكاملة للتعبير والفعل والمبادأة؛ وفقا لـِ (صحيفة المدينة) التي وضعها النبي(صلى الله عليه وسلم) كدستور لدولة المدينة-الناشئة- التي جعلت غير المسلمين المقيمين في الدولة مواطنين فيها، لهم من الحقوق مثل ما للمسلمين، وعليهم من الواجبات مثل ما على المسلمين. غير أن هذا النموذج (الثوري) الذي كان يتجه نحو ترسيخ جذور المواطنة والدولة المدنية في الثقافة العربية مبكرا، بدأ بالاضمحلال بعد وفاة الرسول(ص)، حتى تلاشى إبان الحكم الأموي.
2-ومنذ بداية عهد الدولة الأموية وحتى أواخر حكم الدولة العثمانية تداخلت فكرتا الانتماء والولاء للحاكم وللدولة معا، كتجسيد للتراجع عن مفهوم المواطنة الذي نشأ إبان عهد الرسول في المدينة. وقد بات الأفراد في هذه الدولة رعايا للحاكم تابعين له مُلزَمين بطاعته-دينيا وسياسيا- باعتباره ولي الأمر؛ ما نفى تماما حرية التفكير والتعبير والفعل والمبادأة، وتم التعامل مع المعارضين السياسيين كمجرمين وخونة. وقد كرّسَ هذا السلوك السياسي نمطا للحكم في التراث العربي الإسلامي قائما على علاقة تسلطية للحاكم على الرعية؛ ما حال دون إمكانية نشوء مفهوم المواطنة، كما أعاق إمكانية نشوء دولة المؤسسات؛ لأن المأسسة تتعارض مع مصالح الحاكم، حيث من شأنها تقليص صلاحياته، وتهديد مصالحه، وإضعاف الولاء لشخصه من جانب، وتقوية انتماء الفرد للمؤسسات من جانب آخر.
ثالثا: مرحلة أواخر الدولة العثمانية والاستعمار الغربي المباشر: منذ أواخر حكم الدولة العثمانية، بدأ الشعور القومي العربي الجامع بالتبلور شيئا فشيئا، والذي جعل العرب ينظرون لأنفسهم كمواطنين عرب لأول مرة منذ بداية العصر العباسي تقريبا، وساد لديهم شعور رومنسي بالانتماء للأمةِ مجسدةً بالدولة العربية الواحدة (المتخيلة). ولقد استطاع بعض العرب في هذه المرحلة أن يترجموا مواطنتهم بأفعال على الأرض، حيث ناضلوا ضد سياسات الطغيان والتمييز أواخر الحكم العثماني، وقدموا الكثير من التضحيات، قبل أن يثوروا- تحت التغرير بهم من قبل القوى الاستعمارية- على الدولة العثمانية بهدف تحقيق حلمهم ببناء الدولة العربية الواحدة المتخيلة، التي حاربها الاستعمار الغربي من خلال تطويق وتعديل الشعور القومي العربي الجامع، عبر تكريس هويات فرعية تفكيكية تتمثل بالأقاليم الجغرافية المحلية، التي تم تفتيتها لاحقا من خلال خلق الهويات القطرية على شكل دويلات عربية محلية، تحت سلطة الاستعمار بديلا عن المشروع القومي الوحدوي.
رابعا: مرحلة الدولة القطرية:
1-بعد طرد المستعمرين أو رحيلهم، فقد تحولت الدويلات العربية إلى دول مستقلة نسبيا، في ظل مدٍّ قومي واسع يطالب بالتحرير والتنمية. وقادت النخب الثورية الحاكمة لبعض الدول العربية النظامَ العربي في الصراع مع الاحتلال الصهيوني، بهدف تعبئة موارد الأمة لتحرير فلسطين. وقد تم استغلال حالة الحرب مع الاحتلال الصهيوني من قبل النخب العربية الحاكمة التي أطلقت شعار (لا صوت يعلو على صوت المعركة) كمبرر لمصادرة الحريات العامة والديمقراطية، وتأجيل مشاريع التنمية الشاملة؛ ما أعاق نشوء مفهوم المواطنة، وحال دون مأسسة الدولة.
2-وعلى إثر انهزام النخب العربية الثورية أمام الكيان الصهيوني منذ هزيمة 1967 فقد آلت قيادة النظام العربي للنخب النفطية لا سيما بعد الثورة النفطية، حيث أخذ مفهوم العروبة (الجامع) يخبو من الوعي العام الجماهيري العربي بالتدريج بفعل الضغط على القوى القومية التقدمية واليسارية، وتعزيز القوى القبلية والإسلامية على حسابها، وتم إحلال الولاء (للدولة-النظام) محل الانتماء العروبي. وقد عملت الأنظمة على تأجيل الديمقراطية وحقوق المواطنة والتنمية تحت ذريعة الظروف الطارئة في ظل استمرار التهديد الصهيوني؛ ما أعاق نشوء مفهوم المواطنة، كما حال دون مأسسة الدولة.
3-ومنذ بدء مشروع السلام بين العرب والكيان الصهيوني، فقد تم إبرام معاهدتي سلام منفردتين مع الكيان الصهيوني من قبل السلطة الوطنية الفلسطينية(1993) والأردن(1994)؛ ما فكَّ الطوق حول الكيان الصهيوني من جانب، وقطَعَ آخر خيوط التضامن والتنسيق العربي من جانب آخر. وبالتالي تحررت(سلبا) كل دولة عربية من التزاماتها القومية مع الدول العربية الأخرى، وصارت المصلحة العليا – في الخطاب العلني- هي مصلحة الدولة وليست مصلحة الأمة، فتحولت الدولة العربية عمليا إلى (الدولة-الأمة)، وتَجسّد ذلك من خلال رفع شعارات تعبّر عن هذا التحول التاريخي مثل: الأردن أولا، والبحرين أولا. وهذه الشعارات، وإن لم تظهر في الخطاب اللفظي لدول عربية كثيرة، إلا أنها طُبقت عملياً على أرض الواقع؛ غير أنّ هذا الاتجاه الجديد الذي يقفز فوق القضية الفلسطينية نحو الصداقة مع الكيان الصهيوني، لم يدفع الأنظمة العربية للاستجابة لمطالب الديمقراطية والتنمية، تحت ذرائع تهديدات جديدة كالإرهاب مثلا؛ ما أعاق نشوء مفهوم المواطنة، وحال دون مأسسة الدولة.
4-ومع انطلاقة الربيع العربي، فقد ثارت الشعوب العربية لتحقيق أحلامها بالحرية والديمقراطية والمواطنة والرفاه والدولة الحديثة، لكن عوامل مختلفة خارجية وداخلية استطاعت إدارة دفة الثورات-ما بعد تونس- نحو صراعات أهلية معقدة؛ فانهارت بعض الدول، وصارت باقي الدول مهددة بالانهيار أو التقسيم أو عدم الاستقرار على أقل تقدير، فتراجع ولاء الفرد للدولة لصالح مرجعيته الفرعية القبلية أو الطائفية.
ولكن بعد أن لمس الفرد العربي الأضرار البالغة لصراع الانتماءات الفرعية الدينية والإثنية، وخاصة بعد نماذج سوريا وليبيا واليمن، وما نتج عنها من دمار وانتهاكات عظيمة وتشرد ولجوء؛ فقد صار يحلم ببقاء واستقرار الدولة لضمان الأمن، وصَمَتَ عن حقوقه الأخرى بالديمقراطية والمواطنة وحقوق الإنسان والرفاه؛ فاستثمرت الدولة العربية التسلطية هذه المشاعر استثمارا سلبيا؛ فبدل أن تتقدم خطوة تاريخية نحو المواطنة والديمقراطية وسيادة القانون واحترام حقوق الإنسان، فقد تراجعت للخلف خطوة إضافية، فعمدت إلى مساومة المواطن (الخائف) مساومة مؤلمة: (الأمن مقابل حلم المواطنة المؤجل) والتي تتضمن تنازل المواطن عن معظم حقوقه ومكتسباته التي ناضل من أجلها منذ الاستقلال وحتى الربيع العربي، وذلك بتسويق قيمة الأمن باعتبارها القيمة الوطنية العليا التي تحقق الكرامة للشعب وتؤسس للديمقراطية والمواطنة والتنمية والرفاه. فازدادت علاقة التبعية والاستلاب للدولة، وتلاشت فرص نشوء المواطنة ومأسسة الدولة.
هذا الخطأ التاريخي الفادح الذي ترتكبه الدولة التسلطية باستثمارها في مشاعر الخوف التي اعترت الناس مؤقتا، ومساومتها الأَمنيّة الجائرة لهم، وقفزها فوق مكتسباتهم التي حققوها بالنضال والتضحيات- هذا الخطأ لا بد وأن يؤسس لموجة جديدة من الربيع العربي قد تكون ساحقة ماحقة. وقد يمثل ما نراه الآن في السودان والجزائر بدايات هذه الموجة، لكنها -على كل حال- لا بد وأن تطال الجميع عاجلا أم آجلا.
لذا على النخب المستأثرة بالسلطة والثروة أن تعمل فورا على الانسحاب الطوعي-ما دامت الفرصة متاحة- وتسليم السلطة لقوى وطنية منتخبة تقود برنامجا لتكريس مبدأ المواطنة ودولة المؤسسات؛ وإلا ستكون الأثمان باهضة.