لا تُفسر ولا تُقارن

لا تُفسر ولا تُقارن

أنس إبراهيم معابرة

في مجموعةٍ من الجزرِ المتقاربةِ تدعى #اليابان، والتي ترقدُ فوقَ صفيحٍ ساخنٍ يعُجُ بالبراكينِ والزلازلِ، كان هنالك صبيٌ صغيرٌ، تعرضْ والداه لحادثٍ ماتا على إثرَه، وبقي هو في عنايةِ جدّهِ الحكيمْ.

يقيمُ الجدُّ على قمةِ جبلٍ مرتفعٍ، مُشرفٍ على محاصيلِ الأرزِ التي يزرعها الفلاحونَ القادمونَ من القرى القائمةِ على جنَباتِ الجبلِ المختلفةِ، وفي الأفقْ؛ يُمكنك أن ترى البحر، ليس بحراً صغيراً؛ بل محيطٌ كبيرٌ عميق، يفصلُ بينه وبين قرى المُزارعينَ خطُ الشاطئ وساحاتٍ صغيرةٍ من الرمالِ فقط.

مقالات ذات صلة

إعتادَ الحفيدُ أن يلعبَ دائماً حولَ الكوخِ الذي يُقيم فيه جدُّه، وأن يُساعده في زراعةِ الأرز على سفحِ الجبلِ الى جانب الفلاحينَ القادمينَ من القرى المختلفة، وإعتاد أيضاً طاعةَ جدّه في كل صغيرةٍ وكبيرةً، وكان سعيداً جداً في تلك الأجواء الصيفية الجميلة، خصوصاً بعد أن بدأ الأرز بالتحوّل الى اللونِ الذهبيِّ معلناً إقتراب وقتِ الحصاد.

وفي أحدِ الأيام قبل مغيبِ الشمس، كان الجدُّ يجلسُ على قمة الجبل أمام كوخهِ مقابلاً للمحيط الكبير، وفجأة وقف وصرخَ في حفيده بأنْ يجلِب المشاعل التي يستخدِمُونها عادةً للإنارةِ في الليل حول الكوخ، بادرَ الحفيدُ الى طاعةِ جدِّه، فما كان من الجدِّ إلا أنْ بدأ بإشعالها وإلقاءها في حقولِ الأرز الناضجةِ التي إستوتْ على سوقها، والتي ما إنْ تلقفتْ الشعلاتْ حتى تحولتْ الى كتلةٍ كبيرةٍ من اللهبِ الذي يجري عبر الحقولِ على طولِ سفح الجبل.

إرتفعتْ الأدخنةُ في السماء، وما إن شاهدها الفلاحون المساكينْ حتى خرجوا لإنقاذِ محاصِيلهم، حتى النساء؛ وضعتْ أولادها على ظُهورها وبدأتْ بصعودِ الجبلِ لإطفاء النار.

عندما وصلَ الفلاحونَ الى الجدِّ الحكيم سألوه عن سببِ إشتعال النارِ في أرزاقهم، فأجابَ دونَ ترددٍ بأنه هو منْ أشعلَ النار عامداً، فإستغربَ الفلاحونَ الإجابة، وبدأوا في التهجمِ على العجوزِ وحفيده بعد أن أضاعَ قوتَ العام.

 ولكنهُ أشارَ الى حافةِ البحر، وهناك كانتْ أمواجٌ عملاقةٌ تقتربُ بسرعةٍ كبيرةٍ، وما هي إلا لحظاتْ حتى إخترقتْ الشاطئ، وضربتْ القرى المختلفة، وأحالتْ منازلها الى رُكام، ثم جرَّته معها وهي عائدةٌ الى البحر.

أدركَ الفلاحونَ أن سببَ إشعالِ الحريقِ هو تنبيههم من الأمواجِ العاتيةِ التي ستضربُهم، ولم يكنْ أمام العجوز الوقتُ الكافيْ لإبلاغهمْ وتحذيرهمْ، وعلى الرغمِ من خسارتهم لأغلب المحاصيلْ؛ إلا أنهم قادرونَ على زراعةِ الأرضِ من جديد، بعد أن أهدى العجوزُ إليهم حياتهم.

أسطورةُ العجوزِ “غوارديان وحفيده بن” هي أسطورةٌ يابانية، إلا أنَّ من الممكنِ إعتبارها بأنها من أفضلِ الحِكم العالميةِ وأبلغها.

قدْ تُصيبكَ مصيبةٌ تدفعُك الى تغييرِ خُططك، قد تتعطلُ سيارتكَ أثناء توجهكِ الى عملك، أو قدْ تتأخر ُعلى المطارِ وتفوتكَ الطائرة، أو قد تفشلَ في شراءِ كميةٍ كبيرةٍ من الأسهمِ بسعرٍ رخيص، أو قدْ يحجُب الله عنك مالاً أو ولداً، بينما يتنعمُ بذلك الآخرون من حولك.

ولكنكَ ستعلمُ بعد وقتٍ قصيرS أن تلك المصيبة قد حالتْ بينك وبين مصيبةٍ أكبر، وعطلُ السيارة نجّاكِ من تماسٍ كهربائيٍ قضى فيه العديدُ من زُملاءكَ في العمل بين القتيلِ والجريح، وتأخُرك عن المطارِ، كان كفيلاً بإزالة إسمكَ من قائمةِ المفقودين في حادثةِ سقوطِ الطائرةِ، وفشلُكَ في شراءِ الأسهمِ كان سبباً في عدم تكبُدك لأكبر خسارةٍ ماليةٍ في تاريخك، وأنَّ المالَ أو الولدَ الذي حجبهُ اللهُ عنك، سيكون السببُ في تعاستكَ وشقاءك، فإنَّ منْ أموالكَ وأولادك أعداءً لكْ.

ومما يجبُ ذكرهُ؛ أنه في كثيرٍ من الأحيانِ قد لا يُتاحُ لك معرفةُ السببِ والحكمةِ من تلك الأحداثِ التي ضربتْ حياتك، وغيرتها بشكلٍ جذريّ، وهنا لا بُدَّ أن تُدركَ جيداً أن حكمةَ الخالقِ فوقَ كل التصوراتِ والتوقعاتِ، ومهما إجتهدتَ في تفسير الأحداثِ من حولك، ستجدُ نفسك عاجزاً عن ذلك.

كُل ما يُمكنكَ فعلُه هو أن تقومَ بالعملِ المطلوبِ منك، ثم توكَّل على الخالقِ، ولا تحاولْ أن تفسرَ الأحداثَ من حولك، أو أن تقارنْ نفسكَ ومالكَ وولدكَ مع الآخرين، فإختلافُ الرزقِ والمالِ والعقلِ والمصائبِ بين الناس؛ يعودُ لإختلافِ الناس أنفسهم، ولحكمةٍ لا يعلمُها إلا الله جلَّ في علاه.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى