د. #هاشم_غرايبه
الناس عموما يميلون بطبعهم الى السلفية، أي اتباع ما وجدوا عليه آباءهم من معتقدات وطباع وعادات، ولما كانت هذه التسمية إسلامية بامتياز، فالأقوام الأخرى تسمي هذه الحالة (المحافظة)، والسياسيون منهم يسمونها (اليمينية)، وجميع هذه المصطلحات تؤدي المفهوم نفسه، أي التمسك بما وجدوا عليه آباءهم، بغض النظر عن اقتناعهم بأن كل شيء متطور عبر الأزمان، حتى المفاهيم، واختلاف الأحوال والمتطلبات يتطلب التطوير والتعديل.
مرد ذلك ليس لأن أهلهم هم من ربوهم وعلموهم ذلك، بل لأن كل امرئ يحب ذاته ويحاول إظهار أنه الأفضل، ولما كان الأب أو الجد ماضٍ لا يمكن تغييره، لذلك يمجده لإظهار تميزه، والذي يعني جدليا تميز نسله، ولإقناع نفسه والآخرين بذلك يتّبعه.
كانت هذه الخصلة من أهم ما أعاق المرسلين عبر العصور، إذ كانت كل أمة ترفض أن تترك معتقدات آبائهم، حتى مع وجود اثباتات على فسادها وصحة الدعوة الجديدة، وانسحبت حالة العداء للجديد على أتباع الرسالات السماوية، رغم أنها جميعا تدعو الى العقيدة ذاتها وهي التوحيد، ولم تنقض أية رسالة ما سبقها.
قد يتساءل متسائل: طالما أن العقيدة التي حملتها كل الرسالات واحدة، لماذا كان الله تعالى يرسل في كل زمان رسولا جديدا؟.
الإجابة هي في الفساد الذي كان يطال كل رسالة بعد زمن، بسبب التحريف والتغيير الذي كان يقوم به البشر المنتفعون من ذلك الإفساد، مما يفقد الدعوة هدفها وهو الصلاح والمساواة، لذلك كان الله يبعث رسولا بالعقيدة ذاتها لكن بخطاب متناسب مع مفاهيم ذلك الزمن.
السؤال الآخر: هل من الممكن ان يطال ذلك الفساد الرسالة المحمدية، خاصة وأن الله تعالى قضى بأن لا رسالة بعدها؟.
لا شك بأن الله العليم الخبير يقدر الأمور ويجري سننه، بما لا يبدل كلماته التي سبق القول فيها، لذلك أنزل القرآن محفوظا من عبث البشر، ليبقى مرجعا ثابتا للدين باقيا الى نهاية الزمان، بخلاف كتبه السابقة التي لم يتكفل بحفظها بذاته العلية، وذلك لأنها أنزلت مؤقتة بأزمان وأقوام محددين، بهدف إبقاء شعلة الإيمان متقدة الى حين حلول زمان نزول الرسالة الخاتمة، والتي ستكون بديلا لكل ما سبقها، ومغنية عن التشريعات القديمة.
هنا يقفز الى الذهن سؤال: لماذا لم يبين الله تعالى حكمه في مسألة العقائد السابقة، ولم يقل بأنها ملغاة!؟، بل قال: “إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ”. [البقرة:62]، بدليل أنهم مؤمنون أيضاً.
علينا أن ننتبه الى الصياغة، فقد ذكر الله تعالى أولا “الذين آمنوا” أي اتبعوا الرسالة الخاتمة بالتعميم، وفي ذلك شمول لمن آمن وكان كافرا أو مشركا، ولمن كان متبعا لأي من العقائد السابقة الثلاث ثم أدرك الرسالة الخاتمة فآمن بها، بدليل “وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم” [آل عمران:110]، ثم ذكر الفئة الثانية التي اعتبرها مؤمنة وهم أتباع المرسلين السابقين ولم يدركوا زمن الرسالة الخاتمة، لكن اشترط عليهم أنهم آمنوا بالله واليوم الآخر وعملوا صالحا يثقل ميزانهم، لأن كثيرين منهم طال عليهم الأمد، فأشركوا بالله، ومنهم من انتقض إيمانهم بأنهم أطاعوا أحبارهم ورهبانهم الذين أحلوا وحرموا غير ما أنزله عليهم، ومنهم من اعتقد بعدم لزوم العمل الصالح لدخولهم الجنة، فأولئك مستثنون من رحمة الله بثواب الجنة.
هكذا يتبين لدينا الفارق بين ثلاثة أنواع من السلفية:
الأول هو المحمود والنافع، ويمكننا أن نسميه السلفية العلمية، التي تعني الاقتداء بأعمال السلف الصالحة عن علم لمقاصد تلك الأعمال، وفهم للدين.
والثاني السلفية الاستنساخية، والتي ضررها أنها تعني تقليدا للمظاهر والشكليات ونمط المعيشة فقط، وإهمالا للجوهر.
أما أبلغها ضررا فهي السلفية الاستكبارية، ومنبعها الغرور متمثلا بالاعتداد بالنفس وافتخار بالأجداد، وتتمثل باغلاق العقل عن استيعاب الجديد، وهذا ما منع أتباع أتباع الرسالات السابقة أن يؤمنوا بالرسالات الأحدث، بل كانوا يقفون منها موقفا عدائيا يفوق عداء الكافرين المكذبين، رغم أنها لم تلغِ ما كانوا عليه، بل وافقته وطورته.
وهذا النوع هو ما سعى القرآن الكريم الى تبيان خطورته: “أَوَلَوْ كَانَ ءَابَآؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْـًٔا وَلَا يَهْتَدُونَ” [البقرة:170].