كُنَّ أَسَدًا وَإِيَّاكَ وَ النَمِرْ
يَتَجَدَّدُ إِيمَانِي دَائِمًا بِأَنَّهُ لَا يُوجَدُ لَحْظَةً حَنُونَةً كِفَايَةً عَلَى اَلْقَلْبِ أَحِنُّ مِنْ جَمْعَة اَلْعَائِلَةِ . فَالْمَنَازِلُ لَايسِنْدُهَا اَلْحِيطَانِ وَلَا اَلْأَعْمِدَةُ بَلْ يُسْنِدُهَا دُعَاءُ اَلْوَالِدَيْنِ ، أَصْوَاتُ ضِحْكَتِنَا وَشِجَارَاتنَا ، وَطُقُوسُ مُنَاسَبَاتِنَا ، اَلْمَنَازِلُ تُسْنَدُ بِرُوحِ اَلْعَائِلَةِ دَائِمًا وَأَبَدًا . و اَلْكَنْزُ اَلْحَقِيقِيُّ هُوَ أَصْوَاتُ كُلِّ فَرْدِ مِنْ أَفْرَادِ اَلْعَائِلَةِ وَهُوَ يَعْلُو ، كَمَثَلِ صَوْتِ أَخِي اَلصَّغِيرِ أَوْ بالأَحْرَى صَوْتُ تِلْفَازِ أَخِي اَلصَّغِيرِ ، اَلَّذِي يُتَابِعُ عَالَمَ اَلْحَيَوَانَاتِ إِلَى دَرَجَةِ اَلْهَوَسِ ، وَاَلَّذِي مِنْ شِدَّةِ هَوَسِهِ وَحُبِّهِ اَلشَّدِيدِ لِهَذَا اَلْعَالَمِ أَنَّنِي اِسْتَيْقَظَتْ عَلَى صَوْتِ قَنَاةِ نَاشِيُونَالْ جِيرَافْكْ ، وَاَلَّتِي هِيَ غَنِيَّةٌ عَنْ التَعْرِيفِ لَدَيْكُمْ طَبْعًا . اِسْتَيْقَظَتْ وَكُنْتُ مُنْزَعِجًا جِدًّا ، ذَهَبَتُ إِلَيْهِ وَمَا إِنْ وَقَفَتْ أَمَامَهُ ، نَظَرَ إِلَي بِسُرْعَةٍ وَقَالَ : تَعَالَ تَعَالَ بِسُرْعَةِ وَانْظُرْ مَا اَلَّذِي يَحْصُلُ اَلْآنَ ! نَظَرَتُ إِلَى التِلْفَازِ وَإِذْ أُشَاهِدُ أَسَدٌ وَنَمُرْ وَسَمِعَتُ صَوْتَ اَلْمُعَلِّقِ يَقُولُ : رَافَقَ اَلنَّمِرُ صَدِيقَهُ اَلْأَسَدُ لِيَتَعَلَّمَ مِنْهُ اَلصَّيْدُ ، وَفِي اَلطَّرِيقِ اِنْتَبَهَ بِأَنَّ اَلضِّبَاعَ تُلَاحِقُهُمْ كُلُّ اَلطَّرِيقِ فَقَالَ اَلنَّمِرُ لِلْأَسَدِ : لِمَاذَا هُمْ يُرَاقِبُونَنَا ؟ لَمٌّ يَرُدْ عَلَيْهِ اَلْأَسَدُ . وَجَدَ اَلْأَسَدُ فَرِيسَتَهُ فَبَدَأَتْ اَلضِّبَاعُ تَصِيحُ بِأَعْلَى صَوْتِهَا . سَأَلَ اَلنَّمِرُ اَلْأَسَدُ : لِمَاذَا اَلضِّبَاعُ تَصِيحُ ؟ فَلَمْ يَرُدْ اَلْأَسَدُ .
هَجَمَ اَلْأَسَدُ عَلَى فَرِيسَتِهِ وَبَدَأَ بِالرَّكْضِ ، شَاهَدَ اَلنَّمِرُ أَنَّ اَلضِّبَاعَ تَرْكُضُ خَلْف اَلْأَسَدِ وَتَصِيحُ بِقُوَّةٍ لَكِنَّ اَلْأَسَدَ لَمْ يَلْتَفِتْ لَحْظَةً لَهُمْ حَتَّى اِلْتَقَطَ فَرِيسَتَهُ وَبَدَأَ يَأْكُلُهَا وَالضِّبَاعِ تُرَاقِبُهُ حَتَّى اِنْتَهَى مِنْ أَكْلِهَا وَذَهَبَ ، لِتَأْتِيَ بَعْدَهُ اَلضِّبَاعُ وِيأكِلُوا اَلْعِظَامَ وَالْفَضَلَاتِ اَلْمُتَبَقِّيَةَ ، سَأَلَ اَلنَّمِرُ صَدِيقَهُ اَلْأَسَدُ وَهُوَ مُنْدَهِشٌ : لِمَاذَا لَمْ تَلْتَفِتْ إلَى اَلضِّبَاعِ كُلَّ اَلْوَقْتِ ظَنَنْتُهُمْ سَيَغْدِرُونَ بِكَ وَيَقْتُلُونَكَ ؟! قَالَ اَلْأَسَدُ : وَهَلْ تَجْرُؤُ اَلضِّبَاعُ عَلَى مُهَاجَمَةِ اَلْأَسْوَدِ ! اِسْمَعْ يَا صَدِيقِي لَا تَلْتَفِتْ لِلضِّبَاعِ فِي حَيَاتِكَ فَكُلَّ مَا يَسْتَطِيعُونَ فِعْلُهُ هُوَ اَلصِّيَاحُ وَالنُّبَاحُ لِيُشَتَّتُوا اِنْتِبَاهُكَ عَنْ هَدَفِكَ لَكِنْ لَنْ يَسْتَطِيعُوا أَنْ يَأْخُذُوا مِنْكَ سِوَى مَا تَرَكَتْ لَهُمْ كَرَمًا مِنْكَ . لَا تَلْتَفِتْ إِلَى صِيَاحِ مِنْ هُمْ أَقَلُّ مِنْكَ مَكَانَةً حَتَّى لَا يَأْخُذُوا مِنْكَ مَكَانُكَ ، كُنَّ أَسَدًا . وَبَيْنَمَا كُنْتُ مُنْدَمِجًا فِي الأَحْدَاثِ وَالْمُشَاهَدَةَ ، وَإِذْ سَمِعْنَا صَوْتُ أُمِّي تُوَبِّخُ أَخِي اَلصَّغِيرَ ، عَلَى هَذِهِ اَلْمَشَاهِدِ وَاَلَّتِي لَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تَرَاهَا ، وَطَلَبَتْ مِنْهُ أَنْ يَقُومَ بِتَغَيّيرِهَا عَلَى اَلْفَوْرِ ، وَقَامَ بِذَلِكَ فِعْلاً . وَضْعَ عَلَى قَنَاةٍ كَانَتْ تَبُثُّ بَرْنَامَجَ أُمِّي اَلْمُفَضَّلَ ، كَانَتْ اَلْمُذِيعَةُ تَسْأَلُ اَلضَّيْفَ عَنْ كَلَامِ اَلنَّاسِ ، قَالَ لَهَا : سَأَضْرِبُ لَكَ مِثَالُ وَسِيجْيبُكْ عَلَى سُؤَالِكَ أَلَّا وَهُوَ : كَانَ هُنَالِكَ تِمْثَالٌ فِي مَتْحَفٍ ، وَكَانَتْ هُنَالِكَ اَلْآلَافُ مِنْ اَلنَّاسِ يَصْطَفُّونَ مِنْ الصَبَاحِ حَتَّى اَلْمَسَاءِ لِأَخْذْ صُورَةٍ مَعَهُ فَفِي يَوْمِ مِنْ اَلْأَيَّامِ ، كَانَ هُنَالِكَ حَجَرٌ فَشَعَرَ بِالْغَيْرَةِ وَقَالَ لَهُ مُتَسَائِلاً : لِمَاذَا أَنْتَ ، اَلنَّاسُ تَقِفُ بِالطَّوَابِيرِ لِأَخْذِ صُورَةٍ مَعَكَ وَتَنْتَظِرُ بِالسَّاعَاتِ أَيْضًا ، مَعَ أَنَّنا مَخْلُوقَيينَ مِنْ نَفْسِ اَلْمَنَشَّئ أَلَّا وَهُوَ اَلصَّخْرُ ، فَقَالَ لَهُ اَلتِّمْثَالُ : – أَتَذَكَّرُ عِنْدَمَا كُنْتَ مَعِي فِي نَفْسِ اَلْمَصْنَعِ ، قَامُوا بِالدَّقِّ وَالْكَسْرِ فِيكَ ، وَأَنْتَ لَمْ تَتَحَمَّلْ كُلُّ هَذَا ؟ ! أَصْبَحَتْ تَبْكِي وَتَشْكُو وَقُمْتَ بِالْهُرُوبِ وَأَرَدْتُ أَنْ تَبْقَى كَمَا أَنْتَ صَخْرٌ عَادِيٍّ ، أَمَّا أَنَا تَحَمَّلَتْ اَلدَّقَّ وَالْحَفْرَ وَالضَّرْبَ وَالنَحْت ، وَكُنْتُ أبْكِيٍّ وَأصْرُخْ مِنْ الأَلَمِ وَالْوَجَعِ وَلَكِنَّنِي بَقِيَتْ صَامِدٍ ، إِلَى أَنَّ أَصْبَحَتْ تُحْفَةٌ ، اَلنَّاسُ تَتَمَنَّى أَنْ تُشَاهِدَنِيَ وَتَتَصَوَّرُ مَعِي . رَدَّتْ اَلْمُذِيعَةُ :“ كَلَامُ اَلنَّاسِ أَشْبَهَ بِالتُّرَابِ ، إِذَا لَمْ يَطِيرَ بِالْهَوَاءِ فَهُوَ يُدَاسُ بِالْقَدَمِ ، عُشُّ عَفْوِيَّتَكَ فَالْأَلْسِنَةِ لَنْ وَلَا تَصْمُتُ . ” وَشَارَكَتْهُمْ أُمِّي بِالْحَدِيثِ قَائِلَةً : نَعَمْ صَحِيحٌ ، لَا تَجْعَلْ هَمَّكَ اَلنَّاسَ مَا قَالُوا وَمَا فَعَلُوا ! ! ” إِرْضَاءُ اَلنَّاسِ غَايَةً لَا تُدْرَكُ ” اَلْأَرْمَلَةُ تَخْشَى كَلَامَ اَلنَّاسِ ! اَلْمُطْلَقَةِ تَخْشَى كَلَامَ اَلنَّاسِ ! اَلْعَاطِلِ عَنْ اَلْعَمَلِ يَخْشَى كَلَامُ اَلنَّاسِ ! وَالْفَقِيرِ يَخْشَى كَلَامُ اَلنَّاسِ ! وَاَلَّتِي فَاتَهَا قِطَارُ اَلزَّوَاجِ تَخْشَى كَلَامَ اَلنَّاسِ ! وَالنَّاسِ يَخْشَوْنَ مِنْ بَعْضِهِمْ ، أَيُعْقَلُ بِأَنْ يَخْسَرَ إِنْسَانُ حُلْمِهِ وَطُمُوحِهِ وَيَتَخَلَّى عَنْ تَحْقِيقِ أَهْدَافِهِ وَرَغَبَاتِهِ مِنْ أَجْلِ إِرْضَاءِ اَلنَّاسِ ! ! مَا لَكَ وَلِلنَّاسِ ؟ ! يَكْفِي أَنْ تَعْرِفَ نَفْسَكَ ، مُنْذُ مَتَّىْ كَانَتْ أَحْكَامُ اَلنَّاسِ عَادِلَةً ؟ اَلنَّاسِ إِذا أَحِبُّوا شَخْصًا جَعَلُوا عُيُوبُهُ مَزَايَاهُ وَإِذَا كَرِهُوا شَخْصًا جَعَلُوا حَسَنَاتُهُ مَزَايَاَهْ .
قَالَتْ اَلْعَرَبَ قَدِيمًا : إِرْضَاءُ اَلنَّاسِ غَايَةً لَا تُدْرِكُ وَهَذَا مِنْ أَعْقَلَ مَا قَالَتْهُ اَلْعَرَبُ ، مَهْمَا كُنْتَ مَحْبُوبًا سَتَجِدُ مِنْ يَكْرَهُكَ وَمَهْمَا كُنْتُ نَاجِحًا سَتَجِدُ مِنْ يُقَلِّلُ مِنْ قِيمَتِكَ وَمَهْمَا كُنْتَ تَقِيًّا سَتَجِدُ مَنْ يُشَكِّكُ فِي تُقَوَّاكَ إِذَا أَحْسَنَتْ إِلَى زَوْجَتِكَ قَالُوا : مَسْحُور .
إِذَا تَنَازَلَتْ عَنْ حَقٍ لَكَ قَالُوا : جَبَان !
إِذَا طَالَبَتْ بِحَقٍ لَكَ قَالُوا : عُدْوَانِي !
إِذَا اِلْتَزَمَتْ بِدِينِكَ قَالُوا : مُتَزَمِّت !
إِذَا اِلْتَزَمَتِ بِحِجَابِكِ قَالُوا : جَاهِلَةً بِالْمُوضَةِ !
إِذَا أَطَعْتِ زَوْجَكِ قَالُوا : شَخْصِيَّتُهَا ضَعِيفَة !
إِذَا زُرْتَ صَدِيقًا قَالُوا : لَهُ مَصْلَحَةٌ !
إِذَا تَصَدَّقَتْ عَلَى فَقِيرٍ قَالُوا : يُرَائِي !
إِذَا دَافَعَتْ عَنْ شَخْصٍ قَالُوا : يَتَمَلَّقُ !
إِذَا لَمْ تَقْبَلْ رَشْوَةً قَالُوا : لَا يَعْرِفُ مِنْ أَيْنَ تُأْكَلُ اَلْكَتِفُ !
حَيَاتُكَ لَكَ أَنْتَ . . . أَنْتَ مِنْ سَيَعِيشُ وَأَنْتَ مِنْ سَيَمُوتُ فَاسْتَمْتَعَ بِكُلِّ لَحَظَاتِ حَيَاتِكَ دُونُ أَنْ تَسِيرَ حَيَاتُكَ عَلَى إِرْضَاءِ اَلنَّاسِ ، إِرْضَاءُ اَللَّهِ – عَزَّ وَجَلَّ – أَهَمَّ مِنْ كُلِّ اَلنَّاسِ ” اِلْتَمَسَ رِضَا اَلرَّحْمَنِ وَاتْرُكْ عَنْكَ رِضَا اَلنَّاسِ تَعِيشُ أَسْعَدَ “. نَظَرَ إِلَيْهَا أَبِي وَقَالَ : ” سَفِينَةٌ بِلَا شِرَاعِ ! هَلْ رَأَيْتُ اَلسَّفِينَةُ تُبْحِرُ بِلَا شِرَاعٍ ؟ دَعْكَ مِنْ كَلَامِ اَلْآخَرِينَ إِلَيْكَ وَتَذَمُّرِهِمْ ! اِجْعَلْ نَفْسَكَ مِثْلٌ اَلسَّفِينَةِ ، دَعْ اَلشِّرَاعَ خَلْفَكَ وَكُلَّمَا تَحْدَثُو عَنْكَ اِعْتَبَرَ حَدِيثُهُمْ لَكَ مِثْلٍ اَلْهَوَاءِ اَلَّذِي يَدْفَعُ اَلشِّرَاعَ ، وَتَقَدَّمْ إِلَى اَلْأَمَامِ لِتُحَقِّقَ نَجَاحَكَ وَمُرَادَكَ ، لِتَصِل إِلَى اَلشَّاطِئِ “. وَلِلْأَمَانَةِ شَعَرَتْ أَنَّنِي بِمُنَاظَرَةٍ كَلَامِيَّةٍ ، حَتَّى سُمِعَتُ صَوْتَ أَخِي اَلصَّغِيرِ : وَأَنْتَ يَا صَحَفِيُّ اَلْعَائِلَةِ لَمْ تُقِلْ رَأْيَكَ بَعْد ، اِبْتَسَمَتُ لَهُ وَقَلَّتْ : قُوَّتُكَ وَإِرَادَتُكَ هِيَ مِنْ تَقُودُكَ نَحْوَ أَهْدَافِكَ ، لَا تَيْأَسُ مِنْ كَلَامِ اَلْآخَرِينَ عَنْكَ ، اِجْعَلْ إِنْجَازَاتِكَ تَتَحَدَّثُ بِصَمْتٍ وَسَطَ ضَجِيجِ جَمِيعٍ مِنْ حَوَّلَكَ فَأَصْبَحَ يُغَنِّي وَيَقُولُ : اَللَّهُ اَللَّهُ ، وَأَخْذ يَعْنِي لجُورْجْ وَسُوفْ : كَلَامُ اَلنَّاسِ لَا بِقَدَم وَلَا يأخِّر ، كَلَامُ اَلنَّاسِ مَلَامَه حَيَّرَهُ مِشٌّ أَكْتَرِ . . . نَظَرَتْ لَهُ وَقُلْتُ لَهُ : – نَسِيتُ أَنَّكَ لَا تَفْهَمُ إِلَّا بِعَالَمِ اَلْحَيَوَانِ ، سَأُجِيبُكُ عَلَى مِقْدَارِكَ : كُنَّ أَسَدًا وَإِيَّاكَ وَ النَمُرْ .. وَأَصْبَحْنَا نَضْحَكُ جَمْعِيًّا ، فِي كُلِّ مَنْزِلٍ يُوجَدُ ضِحْكَةً شَاسِعَةً تَكْمُنُ دَاخِلَ اَلْأَخِ اَلصَّغِيرِ .