كيف نحمي الشركات العائلية من الانهيار

كيف نحمي #الشركات_العائلية من #الانهيار

بقلم : المهندس محمود “محمد خير” عبيد
منذ نشأة الأرض واعتماد الإنسان على تبادل السلع والمقايضة والتجارة البدائية لتأمين احتياجاته الأساسية، لعبت العائلة دوراً محورياً في ممارسة الأنشطة الاقتصادية. فقد ارتبطت العديد من المهن والصناعات والحرف بعائلات بعينها، وانتقلت أسرارها وخبراتها عبر الأجيال، ولا يزال بعضها حتى اليوم محصوراً ضمن نطاق العائلة الواحدة. وكان ولا يزال العامل البشري هو الركيزة الأساسية في استمرارية هذه الأنشطة، سواء من خلال رغبة الأبناء في مواصلة مسيرة الآباء والأجداد وتطويرها، أو من خلال إعادة توجيه قدراتهم نحو مجالات جديدة. غير أن سوء الإدارة وغياب الرؤية المؤسسية قد يؤديان أحياناً إلى وأد إرث اقتصادي بني عبر عقود طويلة من الجهد والتعب.
تُعد الشركات العائلية الشكل الأقدم والأكثر شيوعاً للمشاريع الخاصة في معظم دول العالم، وقد ارتبط اسم العديد من العائلات تاريخياً بالمهنة أو الصناعة التي امتهنتها. ولا يمكن إنكار الدور الكبير الذي لعبته هذه الشركات في التنمية الاقتصادية والاجتماعية، إذ شكلت النواة الأولى لعالم المال والأعمال، ومنها انطلقت الشراكات وتجمعت رؤوس الأموال والكفاءات التي أسهمت في بناء اقتصادات قوية، لا سيما في الدول المتقدمة.
إلا أن هذا التطور المؤسسي لم يشمل بالقدر نفسه غالبية الشركات العائلية في عالمنا العربي، حيث ما زالت الاعتبارات القبلية والجهوية وضعف الثقة في الشراكات وغياب الأطر القانونية العادلة تشكل عائقاً أمام التحول المؤسسي. وغالباً ما تدار هذه الشركات بعقلية فردية، حيث يتركز القرار بيد رب الأسرة أو المؤسس، الذي يجمع بين الملكية والإدارة والتوجيه الاستراتيجي، بعيداً عن مبادئ الحوكمة الرشيدة.
في كثير من الحالات، تفتقر الشركات العائلية إلى الهياكل التنظيمية الواضحة، والعمل الجماعي المؤسسي، ومعايير الكفاءة في التعيين والترقية. فتُسند المناصب القيادية لأفراد العائلة بغض النظر عن مؤهلاتهم وخبراتهم، ما يؤدي إلى تداخل الشؤون العائلية مع المهنية، ويؤثر سلباً على جودة القرارات، التي قد لا تكون دائماً في خدمة الأهداف الاقتصادية طويلة الأجل.
وعلى خلاف ما هو سائد في الشركات العائلية في الدول المتقدمة، التي تركز على الاستدامة والنمو طويل الأمد وتسليم الشركة للأجيال القادمة في وضع أفضل، تميل العديد من الشركات العائلية في عالمنا إلى تغليب المصالح الآنية، والاعتماد على العلاقات الشخصية بدلاً من الكفاءة، الأمر الذي يحدّ من قدرتها على جذب الكفاءات والاحتفاظ بها، ويضعف قدرتها التنافسية.
كما تواجه هذه الشركات تحديات إضافية، من أبرزها, غياب خطط واضحة للمسار الوظيفي, ضعف أنظمة الحوافز والمزايا مقارنة بالشركات غير العائلية, تدخل أفراد العائلة في عمل المدراء المحترفين, صعوبة الحصول على التمويل بسبب التحفظ على إدخال شركاء خارجيين, الفردية في اتخاذ القرار, غياب السياسات والإجراءات المكتوبة, عدم وجود إدارة للمخاطر أو مراجعة داخلية, والأهم، غياب خطط التعاقب الإداري في حال تقاعد أو وفاة المؤسس.
وقد أثبت الواقع أن غياب الحوكمة المؤسسية يؤدي في كثير من الأحيان إلى انهيار الشركات العائلية بعد رحيل المؤسس، نتيجة الصراعات بين الورثة، وتفكك الملكية، وعدم إدراك القيمة الحقيقية للأصول الموروثة. فكم من شركة عائلية كانت ركيزة للاقتصاد الوطني تحولت بعد وفاة مؤسسها إلى عدة شركات متنافسة، أضعفت بعضها بعضاً، وبددت اسماً تجارياً وسمعة بُنيت عبر عقود.
إن الشركات العائلية، رغم خصوصيتها، تشكل جزءاً أساسياً من الكيان الاقتصادي والاستثماري لأي دولة، وانهيارها، خاصة إذا كانت كبيرة الحجم، قد يؤدي إلى اهتزاز الاقتصاد الوطني. ومن هنا تبرز الحاجة الملحة إلى سن القوانين والأنظمة التي تنظم عمل الشركات العائلية وتضمن استمراريتها، ليس فقط حفاظاً على مصالح العائلة، بل حماية للاقتصاد الوطني والمجتمع ككل.
ولضمان استدامة الشركات العائلية، يصبح الالتزام بالحوكمة الإدارية منذ التأسيس ضرورة لا خياراً. ويشمل ذلك, إنشاء مجلس عائلة ينظم العلاقة بين أفرادها ويحد من تدخل العوامل غير الاقتصادية في القرارات, إعداد ميثاق أو دستور للعائلة يحدد بوضوح أدوار أفراد العائلة، وسياسات التوظيف والترقية، وآليات اختيار القيادات، وتداول الأسهم، وفض النزاعات, الفصل الواضح بين الملكية والإدارة, اعتماد الهياكل التنظيمية، والأنظمة، وإدارة المخاطر، وخطط التعاقب الوظيفي.
إن تبني الحوكمة الإدارية في الشركات العائلية هو الضمان الحقيقي للحفاظ على إرث الآباء والأجداد، وتحويله إلى قيمة اقتصادية مستدامة تعود بالنفع على العائلة والمجتمع والدولة، وتمنع ضياع ثروات وسمعة بُنيت بجهد السنين في لحظات من الخلاف أو سوء الإدارة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى