كيف باتت العشائرية خصوصية أردنية ؟
د. هاشم غرايبه
من البداهة اعتبار الأردن قد مر بنفس مراحل التطور التي مرت بها الأقطار المجاورة كونه جزءا من بلاد الشام ، حيث كانت القبلية بديلا أمنيا لنظام الدولة في حالات ضعفها ، مما حدا بالعشائر الأردنية خلال ضعف الدولة العثمانية أن تتكتل في كل منطقة لحماية ممتلكاتهم ومزروعاتهم من غزوات البدو القادمين من الصحراء .
ويذكر ( فريدريك .ج . بيك ) في كتابه : تاريخ شرق الأردن وقبائله ، ص 165: ” إبان القرن الذي سبق الميلاد، اضطرت مدن الاتحاد اليوناني ( الديكابوليس) أن تتآزر لدرء خطر غارات بدو الصحراء، لكن كان الانسان أمينا على نفسه ومتاعه خلال الفترات منذ الخلفاء الراشدين والأمويين والعباسيين والأيوبيين والمماليك، فأفاد ذلك الزراعة وخاصة في منطقة عجلون ( شمال الأردن )، إذ أن ستماية سنة من الاستقرار منذ الحكم الروماني وحتى نهاية دولة المماليك على يد الأتراك أوجد شعبا زراعيا ماهرا في تلك المنطقة .
ولما ازداد خطر الغزوات من بدو الصحراء فقد أوجد القرويون دويلات صغيرة تعرف بالنواحي وكل ناحية تقع تحت سيطرة رئيس قوى الشكيمة الذي كان يقود القرويين في المعارك ، ولاتزال النواحي للآن معتمدة كتقسيمات ادارية .”
بعد ان رزح الأردن تحت الحكم البريطاني إثر اندحار العثمانين عام 1916 ، وجد المستعمر أن التعامل مع شيوخ القبائل وزعماء العشائر حسب المبدأ البريطاني الشهير ( فرق تسد ) يحقق لها احكام السيطرة بأقل كلفة عسكرية.
أصبح تقريب البعض من شيوخ العشائر موجبا لترسيخ سطوة أكبر لشخصية الشيخ بين عشيرته، فيما دفعه الى إظهار الولاء أكثر فأكثر من أجل تلبية طلبات عشيرته، وفي نفس الوقت كان ذلك وسيلة لتجفيف منابع المعارضة الوطنية المناهضة للإستعمار ولإضعاف الزعماء المحلين المطالبين بإلغاء المعاهدة البريطانية.
لم تتغير هذه السياسة بعد تأسيس المملكة رغم زوال مبررات العشائريه بعد إرساء الأسس المطلوبة للدولة، والاستقرار الأمني وزوال خطر الغزوات القادمة من الصحراء، إلا أن السلطة استمرت في دعم البنية العشائرية لدرجة أن عبارات مثل: الأهل – العزوة – العشيرة، ظلت سائدة في الخطاب الرسمي، كما ظلت ذيول الأفكار البريطانية قائمة حتى بعد رحيل ( غلوب باشا ).
لقد وجدت السلطة ومنذ البدايات نخبا سياسية مثقفة تطالب بالديمقراطية والدستور والوقوف امام المخاطر الصهيونية، وضغطت النخب التي نظمت أنفسها في أحزاب تظاهرت لاسقاط الأحلاف الاستعمارية مثل حلف بغداد، ومن أجل إلغاء المعاهدة البريطانية
وقد وصلت هذه النخب السياسية ذروة قوتها عندما سيطرت على مجلس النواب واسقطت حكومات ، فلم يعد من قوة تعادلهم غير تشجيع القوى الموالية تقليديا وهي بعض من القيادات العشائرية غير المسيسة لترجيح كفة الموالين في مجلس النواب.
يقول السير جون غلوب ( المعروف في الأردن بـ غلوب باشا ) في مذكراته منشورات دار الفجر، ص: 265 “بعد سقوط حكومة فوزي الملقي (عام 1954) عاد توفيق ابوالهدى مرة أخرى وقرر اجراء الانتخابات، واذ قرر ضمان الأغلبية له فقد طلب الي أن اهيء الجنود للمشاركة في التصويت للمرشحين الذين اختارهم هو”.
قد يتوقع البعض أن هذه الممارسه تعود الى الماضي، لكنها استعيدت دائما بصور متعددة، وأسطعها كانت في الانتخابات البلدية عام 2007 لمنع اكتساح الإسلاميين لها.
وعلى النقيض من الأهداف المعلنة للحكومات المتعاقبة، باعتماد المؤسسية كواحدة من أسس النظام المدني الحديث، فقد كان تعزيز المفاهيم العشائرية منهجا ثابتا على الدوام متمثلا في تغليب المحسوبية والجهوية على الأسس الإدارية، وهكذا أصبح الالتفاف حول العشيرة وشيخ العشيرة أمرا له موجبات ومبررات، فهو الواسطة الأسرع للوصول.
وللإنصاف فلقد حاولت بعض الحكومات تطوير الأداء الرسمي والتحول الى دولة المؤسسات إلا أنها فشلت، وقد حاول بعض رؤساء الحكومات الأقوياء (منهم وصفي التل وعبدالحميد شرف) إلغاء العشائرية تدريجيا، لكن الدولة العميقة أجهضت خططهم، وذهبوا وبقيت العشائرية متمتعة بالدعم القوي.