كورونا الصعلوك وآياكوكا !‏

كورونا الصعلوك وآياكوكا !‏
د. علي المستريحي

ما نعرفه عن الكورونا أنه فايروس لعين، مستتر، مباغت، سريع العدو والعدوى، كاشف للسر. ولكن ما لا ‏نعرفه عن هذا الفايروس أنه صعلوك ينتمي لطائفة الصعاليك! والصعلوك حسب ابن منظور في “لسان ‏العرب” هو “الفقير الذي لا مال له”. والصعاليك هم فئة ظهرت زمن الجاهلية بجزيرة العرب امتازت ‏بتوقها بالتمرد على الأغنياء البخلاء، والسطو على مغانمهم وتوزيعها على الفقراء. امتاز الصعاليك ‏بالشجاعة والصبر عند البأس وسرعة العدو، وضربت الأمثال بهم بذلك. والصعلوك يأبى الضيم، لا يذيع ‏سرا، ويكره الظالمين ولا يخذل المظلومين ويسعى لرفع الظلم الطبقي الذي كان يحابي المترفين أصحاب ‏الحسب والنسب والمال عن غيرهم من المتنفذين أصحاب الحظوة.‏

‏”لي آياكوكا” الذي عمل بشركة فورد الأمريكية طيلة ثلاثين عاما وشغل منصب رئيسها، كان متميزا بعمله ‏لكن أفكاره غير التقليدية خلّفت تصادما بينه وبين المالك الثاني للشركة هنري فورد، انتهت بطرده من ‏وظيفيته‎.‎‏ وقبل نهاية سبعينيات القرن الماضي، كانت شركة كرايسلر تقترب من الإفلاس التام وتعاني من ‏خسائر فادحة، فاستقطبته لتولى منصب المدير التنفيذي لها. كانت الشركة توظف حوالي 650 ألف عامل، ‏وكانوا جميعا يتهدّدهم المصير المجهول من فقدان وظائفهم حال وصلت الشركة إلى الانهيار.‏

كان أول قرار اتخذه آياكوكا فور توليه قيادة الشركة أن جعل راتبه دولارا واحدا (فقط لا غير)، بينما كان ‏مرتبه 360 ألف دولار! وعندما كان بحاجة لقرض كبير لإنقاذ الشركة، في الوقت الذي امتنعت البنوك ‏التجارية عن اقراضه لخوفها من عدم إمكانية السداد، فكر بطريقة ذكية، فخاطب الكونجرس الأمريكي ‏طالبا قرض قيمته مليار ونصف دولار أو أن يجدوا 650 ألف عامل بالشركة عاطلا عن العمل! حصل ‏الرجل على القرض وهو ما لم يحصل إلى حينها بتاريخ أمريكا!‏

مقالات ذات صلة

جعل آياكوكا نفسه قدوة لغيره من العاملين الذين أظهروا استعدادهم للتضحية بالتنازل عن بعض امتيازاتهم ‏وتخفيض قدر معقول من مرتباتهم أو طلب اجازاتهم المستحقة أو اجازات غير مدفوعة الأجر. وقد ركز ‏الرجل على شحذ الروح المعنوية للعاملين، واستطاع إعادة توجيه نظرتهم من الشعور بالفشل الى إمكانية ‏تحقيق النصر، ثم بدأ بإعادة بناء الشركة من أساسها باختصار النفقات غير الضرورية واغلاق فروع ‏الشركة غير المنتجة. كان الرجل يؤمن بأهمية العاملين بمنطقة الهجوم بساحات معركة الشركة ‏‏(‏frontline‏) فاهتم بهم وكان ينصت جيدا لنصائحهم وقام بالتخلص من طبقة الموظفين المترفة بالمواقع ‏العليا الذين كانوا عبئا على الشركة دون طائل. كانت النتيجة أن استطاع الرجل انقاذ الشركة من الإفلاس ‏وأحياها من جديد واستطاع تسديد جميع ديونه في أقل من خمس سنوات!‏

بدأنا مؤخرا نسمع دعوات متكررة، أغلبها من عامة الناس من المغضوب على إمكانياتهم المالية، ومن ‏الطبقة البائسة ماديا من العاملين والمتقاعدين بالتبرع أو اقتطاع جزء من رواتبهم مساهمة منهم بمواجهة ‏الأزمة الحالية. للحق، تشعرني هذه الدعوات بالحزن المقيت والشفقة الموجعة على سذاجة هذه الدعوات في ‏ظل اختفاء ثلة ممن أكلوا أخضر البلد وكدّسوا الملايين بوقت رخائها، وتهربهم المفضوح بوقت ضنكها من ‏تقديم ولو اليسير مما نهبت أياديهم عنوة عنا في غفلة منا. قالها غاندي للناس في كفاحه من أجل استقلال ‏الهند: “إذا واجهنا المجاعة، كونوا على يقين أننا سنأكل بعد أن تأكلون”. أما لدينا، فمن المؤسف أنه عند ‏الرخاء، يقتسم الأغنياء الغنائم، وعند الشدائد، يقتسم الفقراء المغارم!‏

‏ ما أروع آياكوكا وما أروع الصعاليك بأزمة مثل كورونا! ‏

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى