كنافة خشنة / د. هاشم غرايبه

كنافة خشنة

في عام 1989، أعادت الدولة الأردنية بضغط من الغرب خدمة الانتخابات النيابية بعد حجبها عشرين عاما، اعتقد الشعب الأردني أنه سيستعيد مسيرة الديمقراطية التي توقفت عام 1957، وبدأ باستعادة ذكريات تلك الأيام حينما كانت تعقد المناظرات السياسية وتناقش البرامج الانتخابية على مستوى القواعد قبل طرحها على الناخبين.
في إحدى المناطق، ترشح أحدهم معتمدا على ماله ونفوذه، وليس على مؤهل ثقافي أو سياسي، وفي المهرجان الخطابي الباذخ الذي أغدق فيه من وفير ماله، اتفق بضعة شباب مسيسين على الحضور وإحراج المرشح أمام الجمهور، بادر أحدهم الى سؤاله: هل لك أن تشرح لنا الفرق بين السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية؟، بهت صاحبنا لهذا السؤال غير المتوقع، فقد كانت الأسئلة المعتادة تتمحور حول تحسين خدمات المنطقة، لكن المرشح كان يتمتع بسرعة البديهة فتهرب من الاجابة التى كان يجهلها بقوله: الحقيقة أن الفرق بينهما عندنا في الأردن كالفرق بين الكنافة الناعمة والكنافة الخشنة، الشكل مختلف لكن الطعم واحد!.
بالطبع لم ينجح صاحبنا في الفوز بمقعد نيابي رغم كل ماقدمه من مناسف وكنافة وتنفيعات، لأن تلك الانتخابات كانت سياسية، والتنافس كان على أسس منطقية وليس مناطقية، لكنه نجح في كل الانتخابات التالية.
وكما قد بات معروفا، فقد أرادت الدولة العميقة في انتخابات عام 1989سبر اتجاهات الناس الحقيقة، فلم تتدخل (للمرة الأولى في تاريخ الإنتخابات الأردنية والأخيرة طبعا)، فعرفت من خلال نتائجها أن الإسلاميين هم من يحصدون أغلب الأصوات، ولو ترك الخيار حرا للناخبين فإن المخرجات ستكون في المرة القادمة أكثر نضجا وانسجاما مع نبض المواطن ، فجاءتها النجدة من السفارة الأمريكية (حسب ما أكده د. محمد الحموري وزير العدل الأسبق) بشكل قانون قميء سمي “الصوت الواحد”، الذي يفتت القواعد الانتخابية مما يجهض قيام ائتلافات سياسية على أسس برامجية.
وهكذا كان، فتم فرض ذلك القانون المقيت في كل الانتخابات التي تلت والى اليوم، مع تعديله أكثر من مرة من أجل تغيير ردائه من غير تغيير مبدئه، بعد أن صبح مكروها، فالجميع يهجونه، لكنه مع ذلك باق، فانتج برلمانا أغلب أعضائة على شاكلة صاحبنا أبو الكنافة، يسميهم الأردنيون تندُّرا (جماعة الألو)، أي الذين يصوتون في المجلس بناء على اتصال هاتفي يأتيهم.
لقد أصبح هنالك شعور باليأس من إمكانية اخراج برلمان حقيقي، لأن أحاديث كتب التكليف ووعود رؤساء الحكومات المعينة تكرر العبارات ذاتها المفرغة من المعنى، مثل الإصلاح السياسي وتغيير قانون الإنتخاب ليصبح ممثلا لإرادة الشعب، فمنذ ثلاثين عامين يسمع الناس مواضيع إنشائية مليئة بالوعود، لكن خطوة صغيرة واحدة باتجاه الديمقراطية لم تحصل.
لذا فلا شك أنه لا توجد إرادة حقيقية لتحقيق دولة المؤسسات، والمبنية أساسا على الفصل بين السلطات الثلاث، ليبقى وجود هذه السلطات مجرد وهم، فالواقع يثبت أنه لا توجد سوى سلطة واحدة تمتلك القرار هي الدولة العميقة وكل ما عداها مجرد أدوات تنفيذية.
وبعد ، لا زال الأمل موجودا وبهمة شباب الحراك ومن يؤيدونهم من المتشبثين بأهداب الوطن والحالمين بأردن خال من الفاسدين وحماتهم، وأن يتصاعد النضال من أجل تحقيق المطلب الشرعي بالإصلاح السياسي والذي عناوينه:
1- تطبيق مواد الدستور الضامنة لفصل السلطات واستقلاليتها
2- انتخابات حقيقية حرة من التدخلات لمجلس الأمة وفق أسس ديمقراطية (على غرار قانون انتخابات عام 1989 ).
3- تشكيل الحكومة البرلمانية التي تتحمل المسؤولية عن أعمالها تحت رقابة مجلس النواب.
4- تمكين الحكومة من الإضطلاع بصلاحياتها الدستورية كاملة، بلا أية تدخلات.
هذه ليست مجرد أحلام، فقد كانت هي الحالة التى عاشها الأردن ذات مرة في الخمسينيات حينما كانت لدينا سلطة تشريعية منتخبة بشكل حقيقي وسلطة تنفيذية ذات ولاية حقيقية لأنها حكومة برلمانية، وليستا مجرد كنافة ناعمة وخشنة، تقدم حسب الرغبة.
في هذا العالم الذي تتسابق أممه في التقدم والإرتقاء، هل كثير علينا أن نحلم ( بالتقدم ) رجوعا الى الخلف 65 عاما، لكي نضع أرجلنا على بداية سلم الارتقاء ؟؟.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى