كمّاماتْ ليسَتْ كالْكمّامات

كمّاماتْ ليسَتْ كالْكمّامات
د. جودت سرسك

تتوشّحُ عمّانُ بمظاهِر انقلابٍ ناعم وسْط سيّارات الجيشِ المتوسطة وأرتالِ رجالِ الأمنِ السياسيِّ استحقاقا لحركة انقلابية طبيّة قامَ بها فيروسٌ خفيٌّ يعمل لصالحِ أجندةٍ خارجية ،وقد نفّذ الانقلابَ أعوانٌ له ورجالاتٌ تحفِرُ في أركانِ الدولة بعد أنْ قاموا بتهريب أكياسٍ مغلقة, يشتبه أنّها تحملُ أموالاً طائلة وبعضَ التصاريحِ التي تُشبه دفاترَ الشيكاتِ المصرفيّة .
في رحلةٍ كشفية قمتُ بها بعدَ أنْ أنعمتْ علينا دولتُنا الرشيدة بتصريح الكتروني تقدمتُ اليه تحتَ بند أصحابِ الشركات بُغية الذهاب للبنك ،ودّعت صغاري ولبست كمامتي التي طال عهدُها بفمي حتى تعطرتْ برائحةِ الاستغفار والندمِ على كل ما فات وكلِ مراهقاتي وأكاذيبي وأشعاري وغزلي وتساريحِ شَعري الصبيانية وفانيلاتي القرمزيةِ في أعيادِ الحُب،وندمي على دموع أمّي التي سكبتْها طلبا للغربة بعد أن تعسّرَ الحالُ في وطنِ الكمامات والتصاريح ، في وطنٍ أصبح فيه صاحبُ البقالة والمخبزِ والمزرعةِ حاملَ التصريحِ الدائم، إذا خطَب زُوِّجَ ، في وطنٍ يُحبَسُ فيه كبارُ البلدِ كالعصافير التي تكتفي بالتغريد طلباً للقنبزِ ورضاً عن صاحبه.
ابتدأتُ الرحلةَ بسيارة الشعب الأفانتي التي استعصى الحال الاقتصادي على استبدالها بعد سبع سنواتٍ خفاف، بعد تقبيلها وتحسّسِ عجلاتها التي أخفضتْ رأسها قليلا بسبب الفيروس الصديق الذي قلبَ حياتنا ومماتنا رأساً على عجِزْ،ونزفتْ شيئا من البنزين ذي الكثافة( تسعين)، بنزين الشعب الذي يكابِر ولا يخشى نتعاتِ المحرِّك ولا طرقَعاتِ الأكزوزت.
بدأت رحلة الحرية من دوار مشاغل الأمن العام باتجاه محمية الزهور مرورا بكل ما يخطر ببالك، بدأ الشعور يخالجني كمن يودع ذكرياته وحبيبة عمره بعد طلاق ويتشمم حِنّى يديها وعبيرَ فساتينها وكمّاماتها وأكمامها.
الشرطة يخفّفون من قبضتهم الحظرية ويكتفون بالنظر لتصريح دخولك عالمَ التسوّقِ والموضة رفعاً للعتبِ، ويبادرونك بشيء من الابتسامة واللطف إشارةً الى استقرار حالة الانقلاب وقُربِ اعلانِ الدولة المدنيّة، مع ابتسامة داخلية تظهر سخرية من ملامحك الرثّة وسيارتكَ المتّسخة وشَعرِك المُهجّن.
ما أجمل الوطن مع التصريح ،شوارعُ شبه خاليةٍ من المارّة والسيارات ومحلاتٌ مغلقة ومركز أمني في المهاجرين يُظهِر زعامتَه على المنطقة بعد أن خلتْ من المارقين ولصوص جِرارِ الغاز والثملى.تسير الهوينى وكأنك تخبر اشارة المرور مستجدياً أنْ تطيل احمرارها لحينِ ميْسرةٍ ولحين تأمّلٍ بالماضي الجميل وذكريات شركة الدخّان ومدينة ملاهي رأس العين وأمانة عمّان.
تنظر اليها كمغترب يودع أهله في رحلة لمطار الملكة عليا الممتليء بالاوجاع والذكريات وسنين العمر الضائعة.تمرّ على حلويات القدس وكأنه ينادي عليك أنْ خُذ بيدي ولا تنسَ أيام الكنافة وحلاوة الجبن والمبرومة، وتستمر باتجاه مخابز الشلتاوي فتجد صِبيةً ضاقتْ بهم الغُرفُ المغلقة ورطوبة الفقْر فانطلقوا بحثاً عن رزقهم بصناعة الطائرات الورقية، فتتوقف كما كنت تتوقفُ لعربةِ الحاملة وحبّاتِ الفراولة وبسْطات الفقوس،يقسمُ لك أنّ ميزانه سويٌّ وأنّ ثمنه بدون شلّة الخيطان ثلاثة دنانير وهو يتبسم ببراءة ،حتى تمرّ بسوق الخضرة في رأس العين جوار طلوع حيْ نزال، وقبيل مسجد عاشور، تتذكّر أنّك حرّ وتملك تصريحاً فتتوقف وتستجمع ما معك من دنانير وتقرّر ألّا تنفقَ كلّها في زمن الحظر،( الله يكون بعون الناس) بلا ضمان ولا تقاعد ولا وظيفة أو نصفِ راتبٍ للقطاع الخاص،وتهمس في نفسك بابتسامة: أنا( مش موظف حكومي) حتى أتجرّأ على شراء بطيخة ونصيّة جبنة ، معاذ الله .
ترتدي كمامتك وتبدأ بالتسوق كضابط منتصر في ساحة المعركة حتى تفاجأ أنْ لا أحدَ يرتدي شيئا في سوق الخضار الشعبي، عراة الأفواه سامحهم الله والكفين والساقين ويتكلمون بجرأة، ولا حواجز بينهم، حتى يخيّل اليك أنكَ في زمن ما قبل الانقلاب ،تقضي حاجتك بشيء من الليمون والبندورة والكزبرة ثم تخرج شامخا ونظراتهم ترمقك بازدراء لكمامتك الأنيقة وسط الغلابي. تصل بيت عمرك وأهلك فتتوجّس منك أمُكَ خِيفةً، ظنّا منها أنّ الحكومة لا تكذب، وأنّ البيانَ العسكريّ مقدسٌ فتنزوي عنها وتجاملها بابتساماتٍ وكلمات الحبِّ، ثمّ تستأذنُ قبل موعدِ الأحكامِ العُرفية ليلا، فلا تصريحَ بعد السادسة إلّا لصاحب دكانة أو مزرعة.
تمرّ في رحلة اكتشاف دكاكين صيانة السيّارات ابتداءً من دخلة رشادْ ومخيّم الوحدات ووادي الرمَم ،حتى تجدَ أنّ السيادة لبسطات الخضار والفواكه وحدها، حيث العُرِيّ من الكمامات سيّدُ الموقفِ، وتشهدُ عليه منطقةُ القويسمة و جبلُ النصرِ، ولا رايةَ سوى راية تجّارِ الجملة، ولا ضحايا سوى أبناءِ بني مرّة وإخوتهم الذين اشتدتْ بهم الحالُ وأعلنوا أميّتهم أمام المحافظ الالكترونية وأرقام الضمان الاجتماعي السريّة وكلمات الباسوورد المغلقة.حينها طرقت عيني محلَّ أبو العربي للكعك والبيض ، ومحلّ رمضان الخليلي للعصير والقشطة التي يرتادها كلّ المعدمين والمجاهرين بالعصيان والمعصية ،رأيتهما معاً في حالة نفور وقد أثقلهما الغبارُ وانعدامُ الزبائن.
رحم الله عظيم بريطانيا تشيرتشل الذي رفض أنْ يُعلن الأحكامَ العرفيةَ على شعبِه وقال: لا أجمعُ على شعبي وطأةَ حربٍ ووطأة أحكامٍ عرفية.ومن جميل القولِ وهو لصاحبه : دخلتْ حكومةٌ النارَ في شعبها، لا هي أعطتْه تصريحاً ولا كمّامة ولا تركتْه يأكلُ مِنْ خشاشِ الوطنْ.وكلّ عامٍ وأنتم بلا كمّامات .
J_sh_s@hotmail.com

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى