كل شيء .. / خالد عمر المومني

كل شيء ..
كنت ألعب “هاند” مع زوجتي في أحد الليالي الباردة في بيتي الكبير في نيويورك عندما رن الهاتف ليطلبوا مني مقابلتهم في بث مباشر على التلفاز في برنامج يعالج القضايا الإجتماعية و الإنسانية .. ف صدمت و فرحت كثيراً بأن هذه أول مرة أظهر فيها على التلفاز و سوف أصبح مشهوراً و أنا رجلٌ عجوز .. مع أني سألتهم عن ماذا تريدون أن تتحدثوا معي أو ما هي موضوع الحلقة .. لكنهم لم يخبروني و لم أهتم .. بل إهتممت بأمور أخرى ك البدلة التي سوف ألبسها و ربطة العنق المناسبة .. و كيف أتحدث أمام آلاف الناس دون أن أبدو غبياً أو مثيراً للشفقة ..
في اليوم الموعود قبلت زوجتي و و تركت التلفاز مفتوحاً على القناة لكي تشاهدني .. و تحدثت معها و عن خوفي من الأمر .. ف هدئتني عندما رأيت وجهها المشرق الذي يحمل كل معاني الأمل .. و لطالما كانت سبباً في نجاحي ..
وصلت إلى استديو البرنامج بالموعد المحدد .. أدخلتني مديرة البرنامج الى الحلقة بإبتسامة عريضة ..
دخلت فنظرت مباشرة إلى الجمهور الذي يصفق لي و يحيني .. لم أكن أعرف عن ماذا سأتحدث او ماذا سيحدث .. لكني مشيت على الحكمة القائلة .. بأن أفضل ما تفعله في هذه المواقف هو الإرتجال ..
بعد هذا الحديث القصير مع نفسي و انا رافع يدي أحي الجمهور .. نظرت للأمام ف صعقت عندما رأيت أبنائي عمر و ريم جالسين بجانب بعضهم على الكنبة و مقابلهم على الكنبة الأخرى مقدمة البرنامج .. ف خطر لي بأن هذه مجرد مفاجأة صنعها لي أبنائي في عيد زواجي أنا و أمهم .. ف ذهبت إليهم و قبلتهم و حضنتهم .. فهذه أفضل هدية أعطوني اياها في حياتي .. لكني كنت غاضباً لانهم لم يقولوا لي تعال أنت و زوجتك !!
جلست بعد أن سلمت على مقدمة الحفل .. و قلت لأولادي بنظرة حادة و غاضبة لكن تحمل إبتسامة .. ” لماذا لم تدعوا أمكم لتأتي معي .. هل هذه هدية لي فقط !! .. على كل حال هي الآن تشاهدنا .. و سوف تغضب كثيراً ”
ف نظر أولادي في بعضهم و في المقدمة و قالوا أرأيت ؟
لم أعرف لماذا هذه النظرات و هذا السؤال .. لكني علمت أن هنالك أمراً مريبا يحدث ليس مثل توقعاتي ..
بدأت المقدمة بالترحيب بي و سؤالي عن شركتي الكبيرة التي أملكها و عن حياتي بشكل عام ..
ثم قالت لي: “بأن هذا برنامج مختص ب حل المشاكل الإنسانية و لقد دعيناك للحضور بناءاً على طلب أبنائك”
ف بدأت بالحديث عن زوجتي و عن الحادث الذي حصل معها قبل خمس و عشرين سنة ..و جاوبتها .. ف سألت: أنت تعلم بأن زوجتك ميتة سريرياً أليس كذلك ؟
ف قلت لها بنبرة حادة و الغضب يعتصرني من الداخل .. لا .. هي ليست ميتة .. إنها نائمة فقط منذ هذا الحادث ..
في لحظتها فهمت سبب مجيئي الى هنا و فهمت سبب وجود عمر و ريم أمامي في هذا البرنامج .. و فهمت لماذا تتحدث معي هذه المقدمة المرهفة التي تظن نفسها بأنها ستنشر السلام في العالم و هي تلبس حذاء جلد تمساح سعره يكفي قرية لتنام شهرا مرتاحة البطون ..
إسودت الدنيا فجأة و إختفت بهجة و فرحة هذا كله .. و بدأت بالتعرق و الإنزعاج حتى من كأس الماء الذي كان أمامي ..
ظلت المقدمة تتحدث لي نصف ساعة و أنا أحني برأسي كأني موافقٌ على كل شيء لكني فعلياً لم أكن أسمع شيئا كأن أذاني أصابهم الصمم فلم أعد اسمع المقدمة و لا الجمهور و لا صوت عجلات الكاميرا التي أمامي .. كنت أهز برأسي فقط ..
عندما أتى دور عمر و ريم للحديث عادت لي حاسة السمع من جديد .. ف أنا أحب أن اسمع اولادي مهما كان الموقف ..
ف قالو لي: “أبي إنك تعيش حالة من الوهم و هذا مرض نفسي و له علاج .. عليك أن تقتنع فقط بأن أمي ميتة سريرياً لا تتحدث و لا تتحرك ولا حتى تأكل العشاء معك او تلعب الشدة في آخر الليل ولا تشرب معك كوب قهوة ولا حتى تغضب عندما تدخن داخل المنزل .. أبي لقد ربيتنا و علمتنا و إهتممت بنا و كنت أفضل أب حتى أنك رفضت أن تتزوج و تخليت عن حياتك .. ربيتنا على الوهم الذي تعيش فيه .. لكن عندما كبرنا لم نلبث كثيرا حتى عرفنا أنك مريض يا أبي .. أرجوك إنا نريدك لا نريد أن نخسرك أكثر من ذلك .. أرجوك .. لطالما سألناك و تناقشنا معك في هذا الموضوع ف تقول لنا فقط “أمكم فعلت كل شيء” .. حتى أننا لم نعرف شيئا عن أمنا سوا كرسيها المتحرك و هذه الجملة .. أطعمتنا و ربيتنا و درستنا و لم تكن هي موجودة .. هي لم تفعل شيئاً .. أنت الذي فعلت كل شيء .. أرجوك إنسى أمرها قليلا و إهتم بنفسك”
كانت هذه الكلمات على نفسي و روحي أثقل من الجبل و أكثر قوة من سيف ..
فملأت عيوني الدموع و فاضت دفعة واحدة .. و كانت هذه أول مرة أبكي بها بعد خمس و عشرين سنة ..
ف إنهرت و إنهارت معه عقدة لساني و بدأت الكلمات بالخروج تلقائياً ..
“تتحدثون عن أمكم هكذا !! .. أنتم حقاً لا تعرفونها .. عندما كنت شاباً طائشا و أهوجا مليئا بالحماسة و حب الحياة .. في هذه المرحلة بالذات أحببت أمكم .. ف كان حبنا رائعاً و طويلاً و جميلا جداً .. تعلقنا فيه ببعضنا لحد الموت .. و عندما أتى وقت الجد .. أتى الوقت الذي كان يجب علي فيه أن آتي لأطلب يدها .. هجرتها و غادرت مسرعاً قلت بنفسي لا زلت شاباً أمامي الكثير من العلاقات و التجارب لماذا ألزم نفسي الان معها ف أصبح كل مسجون .. ف كان القرار صعبا جدا و حاسماً .. لكني كنت وغدا و حقيرا بشكل كافي لكي أقترف هذا الجرم ..
غادرت بدون إستأذان او سؤال ولا حتى مع إعتذار .. فقط غادرت ب قلب مريض و بارد و روح مهترئة ..
فعلاً عشت حياتي بعدها و الكثير من تجارب .. سألت عنها بعد فترة قصيرة و قالوا لي بأنها الان محطمة فقد ماتت عائلتها كلها بحادث سيارة .. لا .. بل إنها محطمة قبل ذلك بكثير ..
قادتني كثرة المغامرات و التجارب سريعاً الى المخدرات .. ف أدمنتها .. في فترة بسيطة كنت قد دمرت عائلتي .. فما كان من أبي إلا ان ينقذ العائلة ف تبرأ مني .. غادرت بعدها أهيم في هذه الدنيا .. لم يطول الوقت حتى تخلى عني أصدقائي .. و عشيقاتي واحدة تلو الأخرى .. تركني الجميع سريعاً .. رميت الى مقبرة الزمن و التاريخ ..
في ليلة سوداء و أنا امشي بالشارع بحثاً عن زقاق أنام فيه بملابسي الممزقة و المحروقة بجمر السجائر .. و شكلي الهزيل و النحيف الضائع و رائحتي الكريهة .. و عيوني المتصلبة التي تبحث قريباً عن جرعة أخرى و إلا فارقت الحياة ..
رميت نفسي على جانب الشارع من التعب .. فقد أنهكني الجوع و المرض و أنهكتني الحياة .. نعم لقد عرفت ذلك .. لقد حانت ساعة وداعي و لقائي بربي لكي أخلد في الجحيم .. نعم هذا ما أستحقه ..
في هذه اللحظة الاكثر جمالاً و روحية في حياتي بدأ شريط ذكرياتي يعيد نفسه أمامي .. فوجدت النقطة التي غيرت حياتي .. نعم انه أنتي حبيبتي .. لم يكن علي أن أتركك .. ماذا لو تزوجنا و كنت الآن ألعب أنا و انتي ف بيتنا الدافئ مع عمر و ريم و أنتي تعدين لنا معكرونة البشاميل ..
لماذا فعلت هذا بنفسي .. أرجوكم سامحوني جميعاً .. أرجوكم سامحوني أبي و أمي ..
أرجوكي حبيبتي سامحيني ..
عندما بدأ بؤبؤ عيني بالإبيضاض .. وقفت سيارة بجانبي و نزل منها ملاك أبيض أجمل مما على كل هذا الكون .. نظر إلي و هو يضحك ضحكة الحزن .. و حملني و وضعني بالسيارة .. نعم لقد عرفت من هذا الملاك .. إنها حبيبتي ..
أدخلتني بيتها أطعمتني و نمت ..
لم أكن أعي تماماً ماذا يحدث حولي لكني أذكر أنها كانت تخدمني ب فرح ..
ف اليوم التالي كانت قد أخذت قرضاً كبيرا على راتبها .. لكي تعالجني من الإدمان .. ف سافرت لوحدي و أنا أبكي .. لم أفعل شيئاً أو أقل شيئا لها سوا البكاء حتى الان ..
رجعت بعد أن تعالجت و عادت لي صحتي و عافيتي .. و كل ما أفكر فيه بأن رحمة الله او ان الله ذاته قد تجسد ب صورة هذه المرأة .. رجعت و كان هدفي الاول و الاخير .. هو أن أعوضها عن الذي فات .. و أسعدها بجميع السبل و الطرق حتى لو كانت تريد حياتي .. لكني لم أكن متأكدا بأن حتى حياتي تكفي لكي أعوضها عن الجرح الذي سببته لها .. أو حتى أن حياتي تكفي لأوفي لها معروفها معي ..
رجعت و دار بيننا حديث طويل ..
حدثتني عن كمية الألم و الحرمان الذي عاشته ب سببي .. و عن الحرمان الاخر الذي سببه لها موت عائلتها .. حدثتني بأنها عزمت من بعدي على عدم الثقة بأي بشر .. و انها لا ترغب بالزواج حتى تموت .. ضلت تتحدث كثيراً .. و لم يكن هنالك في فمي كلام قادر على محو ما حدث او أن أخفف عليها حتى ..
ف قلت شيئاً واحدا .. لماذا رجعتي ؟
لماذا ساعدتني بعد كل ما حدث ؟
قالت: لا أعلم ..
سمعت بالصدفة ما حدث لك .. ف بدأت بالبحث عنك طيلة شهر متواصل .. حتى وجدتك ..
لماذا فعلتي ذلك ؟ .. لماذا ساعدتي ؟ .. أن لا أستحق ذلك منك ؟ .. لماذا ؟ .. لماذا ؟
لم تقل شيئا سوى .. لا أعلم ..
في هذه اللحظة .. أخذت يدها و ركضت بها سريعا الى شارع ..
و قلت لها .. حبيبتي لا أريد الحديث عن ما فعلت ولا عن ماذا كان يجب بي أن أفعل .. أنا الان هنا أمامك سيكون شرفاً لي أن أقضي حياتي لكي أعوضك .. هل تقبلين الزواج بي ؟
..
عشنا حياة و سنين سعيدة جداً .. عملت و أصبحت ناجحاً جدا .. رزقنا الله ب عمر و ريم .. كانت أفضل سنين حياتي .. كانت سنين من سنين الجنة .. لا أذكر طيلة هذه السنين ب أنها حزنت لو لمرة .. كانت الضحكة لا تفارق وجهها .. و كنت أعيش من أجل ضحكتها ..
حتى أتى اليوم الذي دعسها فيه هذا الشاب الطائش .. ف نامت يومها بالمستشفى و لم تستيقظ إلى الان ..
و من حسن الحظ أن هذا الشاب الوغد و كان يشبه شخصاً أعرفه جيداً بالماضي .. -أقصد به نفسي- ..
إنتحر بالسجن .. لأني كنت سأقتله على كل حال ..
و الآن يا اولادي و يا مقدمة البرنامج و يا أيها الجمهور ..
هل عرفتم لماذا أقول بأنها فعلت كل شيء ..
إسمحوا لي الآن فقد تأخرت .. لدي اليوم عشاء رومنسي بمناسبة زواجنا انا و حبيبتي و ملاكي و زوجتي ..
لدي عشاء مع كل شيء ..
تمت.

اظهر المزيد

‫2 تعليقات

  1. الله يخليكم ل بعض … وانشالله انها بتصحى عن قريب يا رب …. “”اشهد ان لا اله إلا الله وأن محمد رسول الله””

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى