كشف التزوير
د. هاشم غرايبه
ربما لم يعرف الكثير عن المهندس الموريتاني “محمدو ولد صلاحي” إلا بعد نشر كتابه “يوميات غوانتانامو” الذي ترجم الى عشرين لغة.
في هذا الكتاب شهادة على الظلم والقهر الذي تتعرض له أمة بكاملها، شاء قدرها أن توجد في بقعة هامة استراتيجيا وغنية بموارد طبيعية، مما جعلها محط اهتمام الدول القوية الطامعة، فظلت هدفا لغزواتها التي كانت تجد لها ذرائع مختلفة في كل عصر، وأحدث ذريعة كانت محاربة الإرهاب الإسلامي.
لقد جرى اعتقال “محمدو” من قبل مخابرات بلاده، كونه كانت له علاقة مع تنظيم القاعدة، والتي هي كباقي أجهزة المخابرات العربية تتعامل مباشرة مع المخابرات المركزية الأمريكية، ولما كانت المخابرات الموريتانية قليلة الخبرة، فقد تم تحويله الى المخابرات الأردنية، وبعد سبعة شهور من الإستجواب فيها من أجل أن يعترف بعلاقته بتفجيرات نيويورك، أبلغوا الأمريكان أنهم لم يجدوا أي علاقة له بالتهمة.
كان الأمريكان بحاجة ماسة الى بناء مصداقية لروايتهم الهشة عن أن الإسلاميين الإرهابيين هم الذين نفذوا تفجير برجي نيويورك، فكلفوا أجهزة المخابرات العربية بانتقاء مجموعة من بين من تصنفهم على أنهم جهاديين، لذلك كان من يقع عليه الإختيار ممن يتعاطفون مع القاعدة، تمارس بحقهم وسائل التعذيب القصوى في بعض من الأقطار العربية والإسلامية من أجل أن يعترفوا بأنهم وراء تلك التفجيرات، وكان اختيار هذه الأماكن خارج أمريكا، حتى لا تكون خاضعة للقوانين الأمريكية بخصوص ممارسة وسائل التعذيب المحظورة.
وعندما كان يعترف الشخص من شدة التعذيب، كان ينقل الى معتقل غوانتنامو كونه خارج الأراضي الأمريكية.
بطبيعة الحال، لم يتمكنوا الى اليوم من اقناع أي من المعتقلين باعتراف حقيقي، ولما كانت المحاكم الأمريكية لا تقبل الإعترافات تحت التعذيب، لذلك لم تجرؤ السلطات الأمريكية على عقد محاكمة للمتهمين بتلك التفجيرات رغم مرور عشرين عاما عليها، وتضطر الى إطلاق سراح المعتقلين بالتدريج، مراهنة على نسيان الناس لأمر المحاكمة مع مرور الزمن، حيث أن الأهداف المتوخاة وهي تبرير الحملة الصليبية الأخيرة تحققت.
لذلك لم ييأسوا من “محمدو” فنقلوه الى قاعدة “باكغرام” في أفغانستان، حيث تولى التحقيق معه في هذه المرة أمريكي، لمدة خمسة أسابيع متواصلة، لكن أهم ما أثر به جملة قالها له ولا يمكنه نسيانها: “هنا لا يوجد بريء من المتوقع أن يُطلَق سراحه، اقنع نفسك من الآن بأنّك مصاب بالسرطان، فأميركا منذ الآن هي سرطان لا يفارق الجسد وتهمة الإرهاب ملتصقة بك إلى ما لا نهاية”.
بعدها نقلوه الى “غوانتانامو”، وهنالك مارسوا معه صنوفا من التعذيب متطورة عن التعذيب الجسدي الذي تمتاز به أجهزة المخابرات العربية، فهو هناك كان يستهدف إنسانية الإنسان، ولذلك وبعد سنتين من استعمال هذه الوسائل الجهنمية انهار “محمدو” وسجّل اعترافات بخط يده وبحسب ما كان المحقق يلقنه حتى يرتاح مما يلاقيه.
بعدها توقف التعذيب وبقي رهن الإعتقال وهم يؤملونه بالإفراج، لكن ذلك لم يحصل الا بعد أن قضى هناك ثلاثة عشر عاما.
خلال تلك الفترة تكونت بينه وبين سجانه “ستيف وود” علاقة ودية، تطورت الى صداقة، واقتنع بالإسلام لما رأى تمسك “محمدو” به، سواء في أحلك الساعات أوفي أوقات السكينة، وبعد الإفراج عنه تقاعد “وود” من الخدمة وتغيرت حياته جذريا بعد أن دخل الإسلام، وظل على تواصل مع صديقه الموريتاني وزاره في بلده.
بعد خروج “محمدو” من الإعتقال لم يكن يشغل باله الإقتصاص من نظام بلاده الذي سلمه ظلما لأمريكا، فالمؤمن لا يحقد ولو انتابه الظلم، بل قال لكل من أساء إليه: “أقول لكم مثل الذي قاله يوسف لإخوانه..لاتثريب عليكم اليوم”.
كل ما سعى إليه هو كشف التزوير في قضية تفجيرات نيويورك، وفضح كذبة قيام اسلاميين مزعومين بتلك الحادثة، لذلك حاول إصدار كتابه الذي أشرنا إليه، لكن السلطات الأمريكية وقفت ضد النشر بذريعة كشف أسرار الدولة، وكانت المذكرات التي كتبها في السجن محتجزة لديهم، لكنه بعد معركة قضائية تمكن من استعادتها بعدما مسحت المخابرات أكثر من نصف المحتوى، إلا أنه استعاددها من الذاكرة.
الظلم دائما ما يكون نتيجة انتصار الشر المؤقت، لكنه ولله الحمد لا يدوم.