كشف التزوير

كشف التزوير
د. هاشم غرايبه

لا يمكن لمرور الزمان أن يمحو من ذاكرة الجزائريين تلك الفترة العصيبة التي أطلق عليها مسمى العشرية السوداء، ومهما كان الإعلام المضلل متمكنا وتزوير الوقائع متقنا فلا بد للحقائق أن تنجلي.
النظام السياسي الحاكم الغارق في الفساد، كان يعتقد أن ولاءه لفرنسا هو وسيلنه الوحيدة للبقاء في الحكم، ورغم أن قناعاته الفرانكوفونية العلمانية كانت دافعه لمنع وصول الإسلاميين للحكم، إلا أن اختراقه في العمق من قبل المستعمر الفرنسي، كان المحرك الأساس للبطش بالإسلاميين.
الإمبريالية الفرنسية هي الأشد ضراوة بين كل الغرب، بسبب النفسية الإستعلائية، أما قصة العلمانية فهي رداء للتمويه، فهي لا تنظر إلا الى المكاسب ونهب مقدرات الأمم الأضعف، لذلك فاحتلالالتها للدول الأفريقية هي الأكثر دموية، واحتلال الجزائر أوضح مثال، لذلك بعد إخراجها منه، تحايلت فعادت من الشباك.
وبسبب الزمن الطويل للإحتلال وعملها الدؤوب على طمس ثقافة الجزائريين ولغتهم، فقد ترعرعت الفرانكوفونية بين المثقفين، وبالدورات التدريبية العسكرية تمكنت من اختراق العسكر، ولكي تضمن ولاءهم، أفشت بينهم الفساد، فحولت قيادات جبهة التحرير وخاصة الأجهزة الأمنية الى إقطاعيين يمتلكون الثروات ويحرصون عليها، كما وثقت فضائحهم حتى لا يرتد منهم أحد الى الوطنية.
لذلك كان من الصعب على المخلصين الوصول الى مواقع مؤثرة في ظل تحكم هذه الطغمة التي أصبحت هي الدولة العميقة، والتي كان بعض من يحاولون الخروج عليها يلقون مصيرا غامضا مثل بومدين وبوضياف، أو يبقون دمية في أيديهم مثل بوتفليقه.
كان من الطبيعي لشعب حر كالشعب الجزائري أن لا يتقبل ذلك، فنشأت حركة معارضة طابعها إسلامي، كون الدين هو من يوحد كل الأطراف، وترعرعت الى أن تمكنت بالإنتخابات الديمقراطية عام 91 من الفوز بـ 188 مقعدا، فيما نال العسكر 16 مقعداً.
هنا تحركت هذه الطغمة دفاعا عن مكتسبانها أولا واستجابة لولائها لأسيادها الفرنسيين، فكانت المجازر الدموية لمنع وصول الإسلاميين للسلطة، وكما فعلت الأنظمة العربية الفاجرة (فيما بعد) في قمعها للثورات العربية عام 2011 ، فقد نسبت تلك الفضائع للإسلاميين زورا وبهتانا، لكي تبرر القمع والتنكيل.
أحدث ما انكشف من التزوير، تقرير نشرته صحيفة “لوفيغارو” (Le Figaro) الفرنسية، مستندا الى اعترافات ادلى بها ” كريم مولاي” والذي كان يعمل في مديرية المخابرات الأمنية السابقة، في دائرة الاستعلام والأمن التي حُلّت عام 2015، ويقول أن شهد الكثير من الأفعال الدنيئة التي كانت تنفذها الأجهزة الأمنية وتلصقها بالجماعات (الإرهابية)، مثل اغتيال مدير احدى الجامعات والهجوم على فندق أطلس أسني بمراكش عام 94، فترك عمله في عام 2001 وطلب اللجوء الى بريطانيا.
في التقرير المذكور تفصيلات لأحد العمليات البشعة التي أسندت الى الإسلاميين آنذاك، وهي قطع رؤوس الرهبان الفرنسيين السبعة في دير “تبحرين” في آذار 1996.
ويقول أن “جمال زيتوني”، كلف بترؤس جماعة إسلامية مزورة، ثم قام باحتجاز الرهبان السبعة، لكنه فوجئ بجماعة إسلامية حقيقية تتصدى له، وخوفا من أن يتمكنوا من تحريرهم منه قام بقتلهم ودفنهم في غابة، لكن صدرت اليه أوامر باستخرجهم وقطع رؤوسهم وإلقائها بجانب الطريق ومعها رسالة أن الجماعة الإسلامية هي التي قامت بذلك.
ويقول “مولاي” أن اختيار هؤلاء الرهبن جاء لورود تقارير أنهم كانوا على علاقة طيبة بالسكان، ويقدمون خدمات طبية للإسلاميين، وشاركوا في مؤتمر “سان إيغيديو” الكاثوليكي وأحزاب معارضة، الذي عقد لتحقيق حل سلمي للنزاع، مما دعا الحكومة للطلب من هؤلاء الرهبان مغادرة البلاد.
تعقدت المسألة عندما شكك ذوو الضحايا بالرواية الرسمية، فضغطوا على الحكومة الفرنسية للتحقيق في الأمر، وفعلا وجدوا أن الرؤوس قطعت بعد زمن من الوفاة، كما تبين أن الجثث التي استخرجت كانت مختلطة مع كثير غيرها مما أوجد خطأ بينها وبين الرؤوس المقطوعة.
لا شك أن الكذب حبله قصير، كما أن كثيرا ممن كانوا في موقع يتيح لهم معاينة الوقائع على حقيقتها، يدقعهم ضميرهم في النهاية الى تبرئة أنفسهم والإعتراف في الدنيا قبل الاعتراف المخزي يوم ملاقاة رب العالمين، مثل شهادة نصر الله يُوس في كتابه المثير “مَن قتل في بن طلحة”، تلك المجزرة التي وقعت في العام 1997م والتي راح ضحيتها عشرات من الجزائريين الأبرياء، ثم شهادة ضابط المخابرات الجزائري الأسبق محمد سمراوي في كتابه “الإسلاميون والعسكر، سنوات الدم في الجزائر”.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى