قوننة الفســاد هو الحــل . . دولـــة الرئــيس..!*

قوننة الفســاد هو الحــل . . دولـــة الرئــيس..!*
موسى العدوان

بعكس كل الأصوات المرتفعة والمسيرات الاحتجاجية في مختلف مناطق المملكة ، والتي تطالب بمكافحة الفساد ، فإنني أطالب ” بقوننة الفساد ” وإصدار التشريعات اللازمة لحمايته من العبث . ففي هذا السياق أطالب باستحداث وزارة جديدة تحت مسمى ” وزارة الفساد ” على أن يرأسها أحد كبار الفاسدين المخضرمين لمدة أربع سنوات غير قابلة للتجديد ، لكي نتمكن من تطبيق تداول السلطة بين أعضاء هذه الشريحة المبدعة من أبناء الوطن .

قد يعتقد البعض أنني أطرح هذا الاقتراح من قبيل المزاح أو التهكم ، ولكنني أوأكد لإولئك المعتقدين أنني أعني حقيقة ما طرحت دون مواربة أو تضليل ، وليس في ذهني أية معان باطنة أو مضمّنة بين السطور ، وسبيلي إلى ذلك هو ما توصْلتُ إليه من خلال المعطيات التالية :

لقد تضمنت كتب التكليف الملكية التي وُجهت إلى الحكومات المتعاقبة ، منذ بداية تأسيس الدولة الأردنية وحتى الآن ، تأكيدات متكررة لمحاربة الفساد والفاسدين والحفاظ على ممتلكات الدولة بشتى أنواعها . وفي المقابل تعهّدتْ تلك الحكومات بالاستجابة التامة للتكليف الملكي باجتثاث الفساد ، وصيانة الأموال والممتلكات العامة ومعاقبة الفاسدين .

مقالات ذات صلة

وعلى مرّ السنين وتقلب الحكومات على سدة الكراسي التنفيذية ، لم نلمس كمواطنين نتائج إيجابية تقنعنا بأن الوعود أخذت طريقها إلى التنفيذ ، وأن عجلة الإصلاح بدأت بالدوران . بل على العكس تماما وجدنا الفساد قد تجذّر وانتشر ، وتكاثر الفاسدون وقويت سطوتهم ، فامتدت أيديهم الطويلة إلى حرمات الوطن ، تعيث فيها فسادا دون حياء أو وجل .

وفي محاولة لاستغفال الشعب وإيهامه بجدية محاربة الفساد والفاسدين ، ابتكرت إحدى الحكومات في السنوات الأخيرة دائرة أسمتها ” دائرة مكافحة الفساد ” . تَعاقَبَ على رئاستها نفر من أبناء الوطن الشرفاء ، استطاعوا بجهودهم الحثيثة تحقيق بعض النجاحات في كشف الفساد على المستويات الدنيا وإحالة المعنيين إلى المحاكم المختصة .

كما أبدى جلالة الملك عبد الله الثاني قبل بضعة أشهر دعمه الكامل لهذه الدائرة ، وشجعها على ملاحقة الفساد والمفسدين أنى كانت مواقعهم ومهما كانت صفاتهم الوظيفية ، فاستبشرنا خيرا بهذا التوجه . إلا أن عقبات مصطنعة اعترضت سبيلها ، فلم تعد طليقة اليدين لتقتحم أوكار الفساد في عقر دارها بحرية . وأولى تلك العقبات كانت إغراق الدائرة بملفات فساد متراكمة منذ سنوات طويلة ، إضافة لملفات جديدة ترِدْها بين حين وآخر . وهذا عبء يفوق قدرة الدائرة لإنجازها في وقت قصير ، نظرا لمحدودية أعضائها مقارنة بحجم ما وصل إليها من ملفات . ومن الواضح أن الهدف الخفي وراء ذلك هو إظهار عجز الدائرة عن تنفيذ مهمتها أمام الجميع .

وثاني هذه العقبات برزت عندما وصل الأمر إلى رؤوس كبيرة ، وعندها رُفع ” سلاح الفيتو ” في وجهها ليوقف سير الإجراءات التحقيقية تحت مظلة بعض القوانين النافذة ، وتم تجاهل التوجيهات الملكية . والمثال على ذلك ما فعله في الآونة الأخيرة رئيس مجلس النواب دولة السيد فيصل الفايز ، ليحول القضية التي كانت قيد البحث إلى دهاليز جانبية تغيّبها عن الأعين والأذهان ، ويتكفل الزمن بنسيانها من قبل المواطنين . وهكذا يقام الحدّ على الفاسدين الصغار وينجو منه الفاسدون الكبار في عصر الحداثة والتطور .

اكتشاف الفساد والمفسدين ليس معضلة بحد ذاته ولا يحتاج إلى تحقيقات مطولة ، فهو معروف لعامة المواطنين وأصحابه معروفين أيضا . ولكن المعضلة الحقيقية تتمثل في الطلب من المواطنين البسطاء تقديم الإثباتات على الفسادين ، متناسين أن الفاسدين خبراء في إخفاء معالم جرائمهم . إن مهمة الإثبات واكتشاف الفساد تقع في حقيقة الأمر على عاتق الأجهزة المختصة في الدولة ، والتي تمتلك الوسائل اللازمة للبحث والتحري وليس على عاتق المواطنين . والطريق الأمثل إلى ذلك يكمن في سنّ قانون ” من أين لك هذا ؟ ” ليفرض على المشتبه به إثبات براءته بنفسه من التهم الموجهة إليه . أما الفساد الوظيفي واستغلال السلطة فمن السهل إثباتهما ومحاسبة القائمين عيهما إذا كانت هناك نية صادقة في المحاسبة .

فالفاسدون الذين لبسوا عباءة الإصلاح ، وأداروا الدولة على نظرية الشركات ، ومرروا علينا أفلام الاستثمار والخصخصة ، وبيع أصول الدولة بذريعة تسديد المديونية ومكافحة البطالة ، اكتشفنا في وقت متأخر أن المديونية قد تضاعفت وتفاقمت البطالة في عهدهم ، وأصبحنا في هذه الأيام على شفير الهاوية أمام البنك الدولي ومؤسسات العالم المالية .

إن كافة الجهود التي بُذلت خلال العقدين الماضيين لمكافحة الفساد ، لم تحقق أهدافها ولم تخفف من عدد الفاسدين . وتأكد لنا بأن الفساد يشكل قلعة حصينة عصيّة على الاقتحام في ظل الظروف الراهنة ، لا بل أنه يفرّخ بين حين وآخر فاسدين جدد يتولون النخر في بنية المؤسسات الوطنية ، وتدمير هيكل الدولة في سبيل الفوز بمصالحهم الشخصية .

وفي هذا المجال أحب أن أسرد للقارئ الكريم القصة القصيرة التالية : ” العالِم كارل ميبيوس قام بتجربة هامة لمعرفة نظام العلاقة بين ( المفترس والفريسة ) . أجرى ذلك العالِم تجربته على نوعين من السمك ، فأحضر حوضا مليئا بالماء وقسمه بواسطة حاجز زجاجي إلى قسمين . وضع في القسم الأول سمكة مفترسة من نوع ( الكراكي ) ووضع في القسم الثاني سمكة من نوع ( الشبّوط ) . ومنذ اللحظة التي شاهدت فيها سمكة الكراكي فريستها سارعت بالهجوم عليها ، دون أن ترى الحاجز الشفاف فاصطدمت به بقوة أعادتها إلى الوراء مندهشة وأنفها مجروح بصورة بليغة .

كررت الكراكي هجومها عدة مرات لكنها لم تنجح في أي منها بتحقيق هدفها ولم تجّنِ من فعلتهِا سوى الضرر برأسها وفمها . وشيئا فشيئا بدأت سمكة الكراكي المفترسة تدرك أن هناك قوة خفية تحمي سمكة الشبّوط ( الفريسة ) ، حيث أن كل المحاولات التي أقدمت عليها باءت بالفشل . ومنذ تلك اللحظة فصاعدا توقفت الكراكي عن محاولاتها الفاشلة لاصطياد فريستها . وفي هذا الموقف تم إخراج الحاجز

الزجاجي من حوض الماء ، وبدأت السمكتان تسبحان في الماء جنبا إلى جنب كصديقتين ، بعد أن اقتنعت الكراكي أنه محرّم عليها مهاجمة الشبّوط ، لأن مصيرها سيكون سيئا ومريرا لو أقدمت على ارتكاب أفعال كسابقاتها ، والتي لم تجْنِ من ورائها سوى الضرر . وإزاء هذا الموقف رضخت الكراكي للأمر الواقع وقررت المهادنة .

هذه القصة تذكرني بتصرفات حكومتنا الموقرة التي تمثلها سمكة الكراكي ، وتشبه عمل الفاسدين الذين تمثلهم سمكة الشبوط . فرغم محاولات هذه الحكومة ــ ومثلْها جميع الحكومات السابقة ــ اختراق الحاجز الشفاف ومهاجمة الفاسدين ، إلا أنها ارتدّت إلى الوراء والدماء ترشح من أنفها بعد اصطدامها بالحاجز الذي عجزت عن رؤيته . ونتيجة لذلك راحت الحكومة تكابر بالمحسوس وتلجأ إلى عزف سيمفونية ” مكافحة الفساد ” على مسامعنا دون تنفيذ ، وتتعايش مع واقعها المرير بعد أن فشلت في تحقيق المهمة التي تكفلت بها أمام الجميع .

قوننته الفساد من خلال وزارة خاصة به سيكون تجربة عالمية رائدة . على أن تعتمد لها إستراتيجية محددة تتناول هذا التخصص الجديد ، بحيث تقتطع من الأمور القابلة للفساد نسبة لا تتجاوز 20 % ، تتولى الوزارة توزيعها على الفاسدين بعدالة وحسب مؤهلاتهم . أعتقد أن هذا الأسلوب سيوفر على الدولة ما لا يقل عن 80 % من الأموال المنهوبة التي يستحوذ عليها الفاسدون بمهارتهم دون حسيب أو رقيب.

دولة الرئيس . . أقدم على فعلها . . وانشئ ” وزارة للفســاد ” ولكن قيّدها بقوانين صارمة ، ولتكن أنت صاحب المبادرة الأولى على مستوى العالم ، في مجال مكافحة الفساد بطريقة عملية تخالف كل الطرق التقليدية المعهودة . وأنصحك أيضا بالإعراض عن ذوي الأصوات العالية والمسيرات الاحتجاجية المنادية بمكافحة الفساد ، فذلك حلم أكبر من طاقتك وطاقة أية حكومة قادمة .

ولتتذكر دولتكم أن الحاجز الزجاجي بانتظار كل من يُقدم على مكافحة الفساد بطريقة مباشرة . . لكي يُـدمـي أنـفــه . افعلها دولة الرئيس ” فقوننة الفساد هو الحل . . ! ” . وإذا ما فعلت ذلك فإنك ستخدم الوطن وتحدّ من وباء الفساد ، فتكسب رضا الناس في الدنيا . . وتنال ثواب الآخرة . . !

* المقال اعلاه نشرته على المواقع الإخبارية قبل ثماني سنوات، ولكن لم يجد طريقه إلى التنفيذ، ففقدنا الكثير من الأموال. ولهذا أعيد نشره لعل دولة الرئيس الرزاز يأخذ به ويحد من اختلاسات الفاسدين.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى