قصة تعذيب مرعبة بسجون مصر: نيويورك-القاهرة

سواليف – عندما غادر خالد حسن مسقط رأسه في الإسكندرية إلى الولايات المتحدة لأول مرة عام 1999 كان لتوه قد أتم العشرين، لم يكن قد أكمل دراسته الجامعية بعد، غير أنه اضطر إلى الرحيل، فليس ثمة مستقبل هنا، لكنه لم يكن يفكر أن بلاده التي غادرها راغبا في حياة جديدة ستحتجزه قسرا وتعرضه لتعذيب لم يمر في أسوأ كوابيسه، بعد أن جال العالم وأصبح مواطنا لأقوى دولة فيه ليصبح أغلى آماله أن يغادر مصر مرة أخرى.

وصلت الجزيرة نت إلى خالد في محبسه بسجن طرة في القاهرة، ليحكي قصته، وكيف انتهى به المطاف من مرافق لبعض ألمع نجوم السينما في العالم إلى سجين مختف لا يعلم أهله بمكانه لأشهر، قبل أن يظهر على ذمة قضية تتهمه فيها السلطات بالإرهاب.

البلاد قاهرة

“ما عانيته مع أسرتي كان أكثر مما أحتمل” يقول خالد متذكرا ما حدث لأخيه الذي اعتقل لسنوات خلال التسعينيات بسبب نشاطه السياسي، فيقرر السفر لحاقا بأخيه الثاني الذي هاجر إلى الولايات المتحدة للعمل مهندسا بعد أن ضاقت به السبل في مصر.

قسم التاريخ بجامعة الاسكندرية درس فيه خالد لعامين

نشأ خالد في أسرة متوسطة الحال بمحافظة الإسكندرية الساحلية شمالي مصر، تنقل بين مناطقها المختلفة، إذ عاش في منطقة ميامي، ثم انتقل لاحقا إلى سموحة، قبل أن ينتهي به المطاف في المندرة، وعندما أنهى دراسته الثانوية قرر الالتحاق بقسم التاريخ في كلية الآداب بجامعة الإسكندرية، لكنه في السنة الثانية كان قد عزم على الرحيل “بعد اعتقال أخي لأسباب سياسية أيقنت استحالة الاستقرار في مصر”.

بالنسبة للكثيرين، تبدو الولايات المتحدة خيارا صعب المنال، لكن لخالد -الذي كان أخوه قد سبقه إليها للهجرة- كان الأمر أسهل بعض الشيء “لم أكن أعرف الإنجليزية تقريبا” لكنه لم ير ذلك عائقا، وبعد عام واحد من وصول أخيه إلى الولايات المتحدة وصل إليها خالد حاملا حقيبته والكثير من الأحلام.

قدم خالد أوراق هجرته، ولسنتين أقام في نيويورك، كانت مدينة مثالية بالنسبة له، عمل خالد في شارع ستاينواي بمنطقة أستوريا التي تقع في حي كوينز ويفصلها النهر الشرقي عن مانهاتن، يقطنها بخلاف البيض المهاجرون المتحدثون بالإسبانية والآسيويون وكثير من العرب، في نيويورك بدأ خالد بالاستقرار، تعلم الإسبانية والإنجليزية بسرعة “أنا أعرف الإسبانية مثل معرفتي بالعربية”، لكن رحلته تأثرت بحدث غيّر وجه الولايات المتحدة.

طورد خالد بشوارع نيويورك بعد وقوع هجمات 11 سبتمبر

في اليوم التالي لهجمات 11 سبتمبر تعرض خالد لهجوم على خلفية هيئته الشرق أوسطية، طورد في الشارع الذي يقطن فيه من أشخاص لا يعرفهم، لكنه بعد هذه التجربة قرر أن يخوض “مغامرة” -كما يسميها- وأن يتنقل بين ولايات مختلفة.

انتقل خالد إلى مدينة أتلانتا بولاية جورجيا، وأقام فيها لأشهر عدة، قبل أن ينتقل إلى ولاية يوتاه وولايات أخرى لاحقا، قبل أن يقرر بعد عام العودة إلى نيويورك مرة أخرى.

“يمكنك أن تصف نيويورك بأنها بوتقة انصهار” يقول خالد واصفا المدينة التي يعتبرها بيته، بعدما عاد تنقل بين مهن مختلفة، عمل في الملابس، وفي الطبخ، وفي المبيعات في إحدى شركات الأحذية، قبل أن ينتقل للعمل سائق شاحنة.

أثناء عمله في قيادة الشاحنات زار خالد “كل مكان” حسب وصفه، تنقل لسنوات عدة بين 36 ولاية أميركية، لكنه قرر العودة مرة أخرى والاستقرار في نيويورك.

نحن الآن في عام 2006، خالد قرر العمل في هذا العام سائق تاكسي، لن يخرج من نيويورك كثيرا إذًا “العمل سائق تاكسي كان عظيما” يتحدث الرجل عن مزايا العمل من حيث مرونة الساعات واختياره الأيام التي يريد العمل فيها.

ومع ذلك، سعى لتحسين دخله بالبدء في عمل خاص أكبر، أسس خالد شركة استيراد وتصدير كان من خلالها يصدر تقنيات أميركية إلى دولة البيرو في أميركا الجنوبية، لكن من حيث لم يتوقع كان لزيارته إلى البيرو نتائج مختلفة “هناك التقيت زوجتي لأول مرة”.

خريطة نيويورك-البيرو

بعد زواجه في البيرو عاد خالد من جديد إلى نيويورك، وعند عودته قرر أن ينقل عمله سائقا إلى مرحلة أخرى، حيث عمل سائق سيارة ليموزين مع شركة فرنسية كبرى ثم مع شركتين أميركيتين متعاقدتين مع زبائن “في آي بي”(V.I.P) كما يصفهم.

يتذكر خالد أيامه في هذه المرحلة بحنين “كنت أقضي أياما طويلة في العمل مع فنانين وعارضات أزياء وممثلات ورؤساء شركات كبرى”.

لكن حياة خالد لم تكن كذلك فقط، فعلى الرغم من أنه لا يعتبر نفسه ملتزما دينيا فإنه قضى أوقاتا في المراكز الإسلامية ومساجد نيويورك، ويعرف كثيرين من أئمة وشيوخ هذه المساجد “حضرت دروسا لإمام مسجد جامعة نيويورك، واستمعت للكثير من المحاضرات من الشيخ نعمان علي خان، وشاركت في بعض أنشطة مسجد الإيمان في أستوريا”.

ومع ذلك، لم ينخرط خالد مع أي جماعات سياسية أو دينية منظمة “لم أنضم يوما للإخوان أو للسلفيين، لكني كنت دوما أحاول أن أعامل الناس بشكل جيد”، ويتابع “كنت أدخن لفترة طويلة، وكنت أشرب الخمر أيضا”.

خلال هذه الفترة -التي امتدت لثلاث سنوات تقريبا- أسس خالد عمله الخاص في قيادة سيارات الليموزين، وكانت لديه حسابات لزبائن مهمين أيضا، أدى فريضة الحج في 2008، وبعد أن شعر بالاستقرار أراد أن يعود إلى مصر لفترة قصيرة، بلده الذي لم يزره منذ وصوله إلى الولايات المتحدة قبل أكثر من 10 سنوات.

خالد حسن مع الممثل الأميركي وليم دافو

عندما عاد خالد إلى مصر لم تكن البلاد قد تغيرت على الإطلاق أو ربما كانت قد تغيرت للأسوأ، في 2009 كان مبارك لا يزال يفرض حالة الطوارئ الاقتصاد في منحنى سلبي، في حين كانت حكومة أحمد نظيف ورجال الأعمال تتشكل أساسا من أصدقاء مبارك، والابن جمال نجم مصر الصاعد والخليفة المتوقع للرئيس.

أوقفت السلطات خالد في مطار القاهرة عند وصوله، سأله الضباط عن سبب غيابه عن مصر طوال هذه السنوات، واتهموه بأنه قد طلب اللجوء السياسي لدى الولايات المتحدة “كنت أعرف المشكلة، دفعت بعض المال لشخص هناك، وخرجت بعد قليل” لا تزال مصر التي عرفها خالد تعمل بنفس الطريقة.

لم تطل زيارة خالد لمصر، عاد بعدها إلى الولايات المتحدة، لكنه لم ينتظر كثيرا حتى اندلعت انتفاضة المصريين في 2011 فلم يعد أثناء الثورة “وصلت إلى مصر بعد تنحي مبارك بيوم واحد”، لكن زياراته انتظمت إلى مصر منذ ذلك الحين.

كان ابنه الأكبر عبد الله قد أكمل ثلاث سنوات، أراد خالد أن يعيش ابنه وأختاه لاحقا (آسيا، وسلمى) في مصر، كان يعتقد أن مصر بعد الثورة أفضل لتربية أولاده من بقائهم في الولايات المتحدة.

لم يكن خالد منخرطا في العمل السياسي كناشط، لكن الثورة جعلته مهتما بالسياسة أكثر من ذي قبل، بدأت زياراته تطول في مصر، وبدأ يشارك في المظاهرات المؤيدة لمطالب الثورة، وكان ينشر العديد من الصور ومقاطع الفيديو في حساباته الشخصية على مواقع التواصل.

في 2012 سافر خالد إلى أوروبا، تنقل لأسابيع بين المجر وهولندا وألمانيا والدانمارك، يتذكر أسماء الشوارع والمناطق التي أقام فيها في مدن أوروبا “كنت منبهرا بهولندا، الحياة بسيطة هناك، في ألمانيا كان الناس أقل لطفا من الهولنديين، وقضيت وقتا رائعا في كوبنهاغن”.

خريطة لأوروبا تبين البلاد التي زارها خالد

يقول خالد “في أمستردام عرفت أن الحرية أفضل، وفي متحف الهولوكوست ببرلين أدركت أن الحرب ليست الإجابة عن أي سؤال”.

في السنوات اللاحقة زار خالد إيطاليا وإسبانيا، وكان يزور مصر بانتظام، ولا سيما مع قضاء أولاده وزوجته معظم وقتهم في الإسكندرية.

أثناء وجوده في مصر شارك خالد عقب الانقلاب العسكري الذي أطاح بالرئيس السابق محمد مرسي في عدد من المظاهرات والفعاليات المناهضة لوزير الدفاع ولاحقا الرئيس عبد الفتاح السيسي وسياساته، لم يبق خالد الأمر سرا، فقد كان يشارك الكثير من هذه الفعاليات عبر حساباته على مواقع التواصل.

لفت نشاط خالد ووجوده الملحوظ في المجتمع الإسلامي في نيويورك اهتمام عناصر من مكتب المباحث الفدرالية (إف بي آي)، التقى ببعض عملاء المباحث مرات عدة، كان آخر هذه اللقاءات في مقهى بين شارعي برودواي وأمستردام في نيويورك.

“كانت لقاءاتي مع العملاء الفدراليين ودية دوما، كانوا يسألونني في بعض الأحيان عن جيران لي ذهبوا إلى تركيا أو ربما سوريا، ولم أجد حرجا في إخبارهم بما أعلمه”.

قضى خالد وقته متنقلا بين مصر والولايات المتحدة، أضحت حياته هادئة إلى حد بعيد، عمل مستقر في الولايات المتحدة، الأسرة الصغيرة تعيش في مصر حياة رغيدة “اشتريت منزلا كبيرا في الإسكندرية، أنا أحب اقتناء الكلاب، ويجب أن يكون المنزل الذي نعيش فيه واسعا لذلك الغرض” لكن هذه الحياة الهادئة لم تدم طويلا.

خالد حسن مع أحد كلابه

عاد خالد إلى القاهرة في نهاية ديسمبر/كانون الأول 2017، أراد الأب لثلاثة أطفال أن يقضي إجازة رأس السنة مع زوجته وأولاده، وبعد قضاء ما يقارب أسبوعين كان على موعد مع القدر، قدر اسمه “أمن الدولة”.

في الساعة الحادية عشرة والربع من صباح يوم الاثنين 8 يناير/كانون الثاني 2018 بعد أقل من أسبوعين من عودة خالد إلى أسرته في الإسكندرية وبينما كان الرجل الأربعيني في طريقه للقاء أخيه من أجل شراء سيارة للعائلة استوقفه ثلاثة أشخاص، يقول خالد “اختطفوني في سيارة فضية اللون، عندما حاولت الحديث معهم أسكتوني، وقالوا بعنف: أمن دولة”.

وعلى الرغم من أن جهاز أمن الدولة المصري سيئ السمعة قد تم حله بعد شهر واحد من تنحي مبارك في 2011 فإن جهاز “الأمن الوطني” الذي خلفه لا يزال يحتفظ بنفس مقرات وضباط وأدوات الجهاز القديم، إلى الحد الذي يستخدم فيه المصريون عموما اسم أمن الدولة للإشارة إلى الكيان الحالي.

طلب خالد من خاطفيه إبراز هوياتهم لكنهم ردوا بداية بالاعتداء عليه بالضرب، وانتهى الأمر بدخول السيارة التي يستقلونها إلى مقر الأمن الوطني في المعمورة بالإسكندرية، عندما وصل خالد إلى المقر أوقفه عناصر الأمن قبل أن يهجم عليه خمسة أشخاص، استطاع تمييز عددهم، وبدؤوا وصلة أخرى من الضرب والصفع والركل لم تتوقف حتى سقط على الأرض والدم يسيل من أكثر من مكان في وجهه وجسده.

احتجز خالد لثلاث ساعات، غمى عناصر الأمن عينيه قبل أن ينقل إلى مقر آخر، سيعلم لاحقا من المحتجزين فيه أنه مقر الأمن الوطني بمنطقة أبيس في سموحة “استقبلوني بالكهرباء والتعليق والضرب المستمر”، يحكي خالد كيف كان يتم تعذيبه بإلقائه على مرتبة مبتلة على الأرض، قبل أن يبدأ عناصر الأمن في توصيل الكهرباء بهذه المرتبة، في مرات عدة -يقول خالد- “تم توصيل أعضائي التناسلية بأسلاك كهرباء” وصعقه في أماكن عدة.

“ربطوا الأسلاك الكهربائية حول قضيبي، وأخرى حول أصابع قدمي” يقول خالد بصوت متهدج “لم يظهروا أي رحمة”.

خلال ثمانية أيام -هي الفترة التي قضاها خالد بمقر الأمن الوطني في سموحة- استمر تعذيبه بهذا الشكل، كان يتم تعليقه لساعات طويلة، والتعليق هو طريقة شديدة الإيلام يتم فيها ربط يدي الضحية من الخلف، قبل أن يتم رفعه اعتمادا عليهما على باب أو حائط “بعد دقائق تشعر بأن كتفيك قد انخلعا”.

منظمات حقوقية عدة وثقت وسائل التعذيب التي تحدث عنها خالد، وفي الكثير من الأحيان يبدأ عناصر الأمن بتعذيب الضحية قبل البدء في استجوابه أصلا، لكن المحققين سألوا خالد منذ توقيفه عن كونه جاسوسا لصالح الاستخبارات الأميركية “أخبروني أني جاسوس أبلغ الأميركيين بتطورات الوضع في مصر، وتحديدا لدى تنظيم ولاية سيناء”.

خلال هذه الفترة تقدمت أسرة خالد ببلاغات للشرطة والنيابة للتحقيق في اختفائه بعد أن يئست من العثور عليه بالطرق التقليدية، أنكرت السلطات احتجاز خالد طوال خمسة أشهر تقريبا، لكن الأذى طال الأسرة بعد أن حاولت زوجته وأخوه البحث عنه في مقر الأمن الوطني بالإسكندرية بعد عشرة أيام من الاختفاء “علمت لاحقا أنهم اقتحموا المنزل وضربوا زوجتي”.

في الأيام التي قضاها خالد في سموحة لم يكن مسموحا له باستخدام المرحاض سوى مرة واحدة في اليوم “كنا نشرب مياها لها لون البول، والطعام كان رغيف خبز واحد في اليوم” نقل بعدها إلى القاهرة.

مقر كلية الشرطة القديمة بالعباسية

نقل خالد إلى أحد المقرات الرئيسية لجهاز الأمن الوطني بمنطقة العباسية في القاهرة “عندما خرجت من سيارة الترحيلات إلى هذا المكان أيقنت أني في الجحيم”.

انتزع الجنود خالد من السيارة، قبل أن يسمع عنصر أمن من خلف الغمامة يسأله “هل تعرف كيف كنت تبدو عندما ولدت؟” فأجاب خالد “نعم”، فرد العنصر “اقلع ملابسك زي (مثل) ما اتولدت”، يقول خالد “عندما دخلت من بوابة المكان شممت رائحة بالغة السوء، وشاهدت من طرف الغمامة أجسادا عارية لأشخاص حفاة بلحى وشعور طويلة”.

ما يتحدث عنه خالد وثقته منظمات حقوقية وشهادات عديدة لمعتقلين سابقين عن الاختفاء القسري الذي تعرضوا له لفترات مختلفة تطول وتقصر، في معظم الشهادات يتحدث المعتقلون عن عدم معرفتهم بالوقت ولا بالمكان الذي يحتجزون فيه، وعن التعذيب الشديد، والتهديد بالقتل والاغتصاب وأذى الزوجة، الأم، أو الأولاد.

في اليوم الأول “يوم الاستقبال” كما يسميه خالد بدأ التعذيب على الجزء الأعلى من جسده ورأسه “كانوا يصعقونني بالكهرباء في أذني ولساني”، كانت الاتهامات والأسئلة تتمحور حول عمالته لجهاز الاستخبارات الأميركية “لقد فوجئت لاحقا عندما رأيت لائحة الاتهام التي وجهت للمحكمة، لم تكن تهمة التجسس مكتوبة”.

في الأيام اللاحقة، يروي خالد كيف كان عناصر الأمن “يتفننون” في استخدام الكهرباء على جسده، استخدم الجنود والضباط أجهزة صعق مختلفة الشدة على جسد خالد بأكمله، خاصة أعضاءه التناسلية “في بعض الأحيان كان هناك 5 أشخاص يتناوبون على تعذيبي”، ويؤكد خالد أيضا أن التعذيب كان نفسيا وليس جسديا فقط “هددوني بإحضار زوجتي وأولادي”.

صور توضيحية لبعض أشكال التعذيب “هيومن رايتس ووتش”

كانت جلسات التعذيب تستمر لساعات طويلة، وجلسات الكهرباء كانت تستمر لساعة أو أقل، لكن هذه الجلسات المتقطعة كانت تستمر على مدار اليوم “كانوا يعذبونني بالكهرباء في يوم ويعلقونني في اليوم التالي، وهكذا دواليك” يروي خالد أن كتفيه خلعا أثناء تعذيبه، كما أنه تعرض لجروح كثيرة بسبب تقطيع جسده بآلات حادة.

كل يوم كان يعود خالد مجرورا إلى زنزانة ضيقة يتكدس فيها 15 شخصا على الأقل “كنا ننام فوق بعضنا البعض” يقول خالد، لكن كان لوجوده مع آخرين في الزنزانة فائدة غير متوقعة “أحد المعتقلين معي أخبرني أنه رأى أحد الجنود يغرس مقصا في فخذي”، لم يكن خالد يعرف سبب الجرح العميق في هذا المكان حتى أخبره رفيق غرفة السجن.

كانت الأسئلة غريبة على خالد، وهو الذي أقام نصف حياته في الولايات المتحدة، إنه لم يكن يفهم الكثير من أسئلة المحققين، في إحدى جلسات التعذيب سأله المحقق عن “شعار جماعة ما”، يقول خالد “لم أكن أعرف ما يقصد بشعار، لاحقا عرفت أنه يعني “لوغو” (Logo)”.

سأل الضباط خالد أيضا عن عدد من كتاباته على فيسبوك والصور التي نشرها في حسابه الشخصي والتي عرض فيها مظاهرات مناهضة للانقلاب العسكري أو بعض التعليقات المؤيدة للرئيس السابق محمد مرسي.

عندما هدده أحد الضباط باغتصاب زوجته يقول خالد إنه رد موجها إهانات للضابط، فما كان من الضابط إلا أن “جن تماما” وأحضر عنصر أمن آخر “طلب الشرطي إحضار شخص آخر قال لي إنه سيغتصبني، لم أصدق لكنه فعل”.

يقول خالد إنه اغتصب مرتين أثناء التحقيق، إحداهما بعصا خشبية، والأخرى من قبل رجل آخر “حينها كسروني”.

تقول سارة محمد الباحثة في المفوضية المصرية للحقوق والحريات -وهي منظمة محلية توثق الانتهاكات الحقوقية التي تقوم بها السلطات بما في ذلك الاختفاء القسري والتعذيب وعمليات القتل خارج نطاق القانون- إن “التعذيب الجنسي الذي يتعرض له الرجال في أماكن الاحتجاز غير القانونية ربما يكون قد طال أكثر من نصف المعتقلين الذين تم توثيق حالاتهم “وبحسب معتقلين آخرين تحدثنا إليهم، فإن الانتهاك الجنسي الذي تعرض له خالد حسن ليس حالة استثنائية أو نادرة، تحدث معتقلون عن تعرضهم لانتهاكات جنسية اختلفت شدتها، سواء في العاصمة أو مدن الأقاليم”.

“كنت مستعدا للاعتراف بأي شيء” يقول خالد إنه بكى بحرقة، وأخبرهم أنه مستعد للتوقيع على كل ما يطلبون، لكن أحد الضباط أخبره “لا، ستعترف بلسانك” يعتقد خالد أن الضباط سجلوا اعترافات بصوته “طلبوا مني تكرار كلمات بعينها وإعادة الاعتراف أكثر من مرة”.

صورة تظهر آثار التعذيب على قدم خالد حسن

ما لم يعرفه خالد أنه أثناء تعذيبه كان ضباط الأمن الوطني يهاجمون منزله، ففي 18 يناير/كانون الثاني -أي بعد نقل خالد إلى القاهرة بيومين تقريبا وبعد محاولات عدة من زوجته البيروفية وأخيه الأميركي الجنسية أيضا لمعرفة مكانه، وبعد زيارتهما أحد مقرات الأمن الوطني للسؤال عن مصيره- اقتحم عناصر الأمن منزل خالد في الإسكندرية “علمت لاحقا أنهم ضربوا زوجتي، أما أولادي فقد تأذوا نفسيا بشكل لا يمكن وصفه”.

تقول الأسرة إن عناصر الأمن أمروا الزوجة بمغادرة البلاد مع أولادها، وهو ما فعلته -مذعورة- بعد أقل من أسبوع من اقتحام منزلها والاعتداء عليها.

ورغم اعتراف خالد على نفسه بكل التهم التي أجبر على الاعتراف بها فإن التعذيب لم يتوقف، ويقول بيأس “فكرت في قتل نفسي أثناء وجودي في هذا المكان”، ويتابع “لم يوقفوا تعذيبهم إلا بعدما أوشكت على الموت فعلا”.

عندما كان التعذيب ينتهي -وفي زنزانته المتكدسة- وبشكل يومي يأتي أحد الجنود يعرفه المعتقلون بـ”الممرض” ببعض الأدوية والمراهم الموضعية والإبر الطبية يحاول بها إصلاح ما يمكن إصلاحه ليتجهز خالد لليوم التالي من التعذيب، ربما لهذا السبب استطاع الصمود لأكثر من عشرين يوما “كنت أعود إلى الزنزانة غير قادر على الحركة”.

كان زملاء خالد في الزنزانة يساعدونه على الذهاب إلى الحمام، وفي أيامه الأخيرة بالعباسية لم يكن يستطيع الحركة على الإطلاق “كنت أتبول في علبة صغيرة بجواري، وفي اليوم الأخير كان لون البول تحول للأزرق الدموي”، حينها سمع خالد الممرض يحذر أحد الضباط بأنه يجب أن ينقل إلى مكان آخر حتى لا يموت في هذا المكان.

في هذه الليلة -أي بعد شهر تقريبا من اختطاف خالد من الإسكندرية- جاءت سيارة لنقله مرة أخرى إلى الإسكندرية “نقلوني مرة أخرى إلى مقر أمن الدولة في أبيس”، وفي اليوم التالي أحضر عناصر الأمن طبيبا لفحص خالد الذي يقول “أخبرني الطبيب أنني كنت قريبا للغاية من بتر قدمي”.

ظل خالد في مقر أمن الدولة يعالج بجرعات دوائية مكثفة لثلاثة أشهر كاملة “كنت وصلت لمرحلة من عدم الإدراك لا تسمح لي بمعرفة مع من أتحدث”، استمرت التحقيقات “لكن بلا تعذيب” حسبما يقول، سمحوا له بالاستحمام ثلاث مرات خلال الأشهر الثلاثة، كما كانوا يسمحون له باستخدام المرحاض مرة في اليوم وأحيانا مرتين.

ظهر خالد أمام النيابة العسكرية في صباح يوم 3 مايو/أيار بعد خمسة أشهر إلا خمسة أيام من اختطافه “واجهني الضابط بتهم تكفي لإعدامي” اتهمت بالتخابر مع دولة أجنبية، والانضمام إلى تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وتمويل منظمات إرهابية، والتخطيط لتفجير منشآت عسكرية.

النيابة العسكرية- الهايكستب

ضمت النيابة خالد إلى قضية كبرى أطلق عليها قضية “ولاية سيناء الثانية” تضم مئات المتهمين، بينهم 245 متهما يحاكمون حضوريا أمام محكمة عسكرية رغم كونهم مدنيين، ونقل إلى سجن استقبال طرة في إحدى ضواحي القاهرة.

لاحقا، وبعد بيان أصدرته منظمة هيومن رايتس ووتش بشأن حالة خالد، نفت السلطات المصرية رسميا عبر الهيئة العامة للاستعلامات احتجازه لفترة طويلة بين 8 يناير/كانون الثاني و3 مايو/أيار 2018.

عندما شوهد خالد لأول مرة بعد أقل من أسبوع من ظهوره أمام المحكمة العسكرية كان قد فقد الكثير من وزنه، وكانت آثار التعذيب بادية على ذراعه وقدمه رغم الأشهر التي قضتها السلطات في محاولة إخفاء تلك الآثار أثناء إخفائه في الإسكندرية.

حاولت زوجة خالد وابنته الصغرى زيارته إلا أن السلطات منعتهما من دخول البلاد بعد وصولهما قادمتين من الولايات المتحدة في مايو/أيار بعد أيام من ظهوره أمام النيابة العسكرية.

يكافح خالد في الوقت الحالي من أجل الحصول على حقه بإجراء مكالمة هاتفية مع عائلته وأولاده بشكل رسمي، ولا يزال الأطفال يلملمون جراحهم من أثر الصدمة التي تعرضوا لها في مصر “ابني البالغ من العمل 12 عاما اضطر للقاء طبيب نفسي، وزوجتي كذلك، أما ابنتي الصغرى فلا تزال تستيقظ باكية في الليل بسبب ما حدث”، ولم يعد خالد يحلم بأن يكبر أولاده في الإسكندرية.

لقطة جوية لمجمع سجون طرة

الآن، يعتقد خالد أن السلطات الأميركية لا تهتم بأمره كثيرا، يقول إنه ربما يكون “ضحية للعلاقات السياسية الأميركية المصرية”.

وفي أحد اللقاءات الأخيرة بين نشطاء مصريين وممثلين عن الخارجية الأميركية في واشنطن -وبحسب مصدر شارك في اللقاء- نفى أحد ممثلي الخارجية معرفته أصلا ببقاء أميركيين محتجزين في السجون المصرية، لكن ممثلين عن السفارة الأميركية في القاهرة يزورون خالد بشكل منتظم في محبسه بحضور ضباط من السجن، لكن بشكل عام يتعنت الضباط في السماح له بالحصول على المساعدة من الخارج.

حتى الآن، قضى خالد عاما في السجن منذ ظهوره بعد اختفائه القسري لخمسة أشهر، لم يعتد الأمر ولا يعتقد أنه سيعتاده، يرى آثار التعذيب على جسده كل يوم “أتذكر كل التفاصيل عندما أرى جروحي في الوضوء، إنها أسوأ تجربة يمر بها بشر” يقول خالد بالإنجليزية “أنا أريد أن أرى الشارع، أريد أن أقود سيارتي في شوارع نيويورك من جديد، وأريد أن أعيش حياة طبيعية مرة أخرى”.

أحيانا يحصل خالد على بعض الكتب، قرأ خلال هذا العام كتبا بالإسبانية والإنجليزية، وعلى الرغم من عدم حظر ذلك قانونا فإن السلطات لا تسمح في معظم الأحيان لخالد بقراءة الكتب.

لا يزال خالد يعاني مضايقات وانتهاكات الضباط والمجندين بشكل مستمر أثناء وجوده في السجن، وفي مرحلة إعداد هذا التقرير اكتشفت السلطات استخدام خالد هاتفا نقالا أثناء احتجازه، وعلم المحرر من مصادر مطلعة أنه نقل إلى “عنبر التأديب” ليوضع في الحبس الانفرادي، فلم نستطع التواصل معه منذ ذلك الوقت.

الجزيرة نت

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى