سواليف
نشر حساب الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين اليوم – عقب هجوم أخير نال من الشيخ الشعراوي – أجزاء من كتاب للشيخ يوسف القرضاوي عن الشيخ الشعراوي بعنوان “محمد متولي الشعراوي..الإمام العالم الرباني المعلم المفسر”.
وجاء في كتاب القرضاوي: “توفي أستاذنا وشيخنا (رجل القرآن) وأحد المفسرين الكبار، الإمام الراحل الشيخ محمد متولي الشعراوي، العالم الرباني، والذواقة الإيماني، وأحد المربين الأفذاذ، الذين نوروا العقول والقلوب برحيق الإيمان، وعِلْم الإسلام، وأحد أعمدة الدعوة، وأحد الرجال الذين حملوا لواء الهداية لهذه الأمة في العصر الحديث”.
وتابع القرضاوي: “هو أحد الأئمة الذين أخرجهم الأزهر وخرجهم وأنبتهم، وكان له في الحياة المصرية والعربية والإسلامية أثر لا ينسى، ولا يكاد يوجد عربي أو مسلم يعرف العربية إلا والتقى الشيخ الشعراوي في درس من دروسه التفسيرية المتميزة، التي كان الرجل فيها نسيج وحده، في فهم القرآن، وفي اكتشاف جوانبه وجواهره، والاطلاع على حقائقه ودقائقه وإعجازه، بحاسة روحية لا يشاركه فيها أحد.
لقد فقدت الأمة الإسلامية بموت الشيخ محمد متولي الشعراوي عَلمًا من أبرز أعلامها، وقطبا من أشهر أقطابها، ونجما من نجوم الهداية في سمائها، ورجلا من رجالات العلم والدعوة الأفذاذ، فقدت رجلًا عاش عمره في خدمة العلم، وخدمة اللغة والأدب، وخدمة القرآن، وخدمة الإسلام، وتوجيه الأمة إلى الخير، وأحد الرموز الذين كان لهم تأثيرهم، لا سيما في السنوات الثلاثين الأخيرة، وموت العلماء لا شك مصيبة على الأمة، خصوصًا إذا تكرر فقدهم واحدًا بعد الآخر، وقد فقدنا في هذه الفترة عددًا من هؤلاء النجوم، فقدنا الشيخ الغزالي، والشيخ خالد محمد خالد، والشيخ جاد الحق علي جاد الحق، والشيخ عبد الله بن زيد آل محمود، والشيخ عبد الفتاح أبو غدة”.
وتابع: “أخشى ما أخشاه: أن يذهب هؤلاء ولا نجد من يسد الثغرة بعدهم، وهو ما جاء في الصحيحين، عن عبد الله بن عمرو، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من صدور الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبقَ عالم اتخذ الناس رؤوسًا جهالًا، فسُئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا” . وهذه هي الكارثة، الرؤوس الجهال الذين يظهرون هنا وهناك، يتبوأون المناصب، وتكبِّرهم أجهزة الإعلام، وتُضخم من شخصيتهم، ويسألون فيفتون بغير علم، يقولون ما لا يعلمون، لا يلجأون إلى ركن شديد، ولا إلى حصن حصين، فهم يفتون بغير علم، فيَضلِّون ويُضلِّون. وقد قال الشاعر قديمًا بعد أن مات أحد الرجال الأتقياء:
لعمرك ما الرزية فقد مال * ولا فرس يموت ولا بعير
ولكن الرزية فقد حر * يموت بموته خلق كثير
فكيف إذا كان هذا المفقود أحد العلماء الربانيين الذين تركوا وراءهم الكثير من العلم الزاخر، وتراثًا من التفسير الباهر للقرآن الكريم، لقد رحل عنا رجل القرآن، وهو الشيخ الشعراوي، فلا شك أنه كان أحد مفسري القرآن الكبار، وليس كل مَن قرأ القرآن فهمه، ولا كل مَن فهم القرآن غاص في بحاره، وعثر على لآلئه وجواهره، ولا كل من وجد هذه الجواهر استطاع أن يعبر عنها بعبارة بليغة، تقنع العقول، وتحرك القلوب”.
وقال القرضاوي إن الشيخ الشعراوي كان من الذين أوتوا فهم القرآن، ورزقهم الله تعالى من المعرفة بأسراره وأعماقه ما لم يرزق غيره، مشيرا الى أن له له فيه لطائف ولمحات وإشارات، ووقفات ونظرات، استطاع أن يؤثر بها في المجتمع من حوله.
وتابع القرضاوي: “وقد عُرِف الشيخ الشعراوي أول ما عرف من خلال برنامج (نور على نور) الذي كان يذاع على التليفزيون المصري، والذي كان يقدمه الإعلامي المتميز الأستاذ أحمد فراج، ويعتبر هو مكتشف الشيخ الشعراوي، الذي لفت الناس إليه، ونبَّه الناس عليه، وعرف بقيمة الشعراوي بطريقته المتميزة، وأسئلته المدروسة العميقة والمتنوعة.
وقد رُزق الله الشيخ الشعراوي القبول في نفوس الناس، فلا تكاد تفتح تلفازا إلا وجدت الشيخ الشعراوي يفسر القرآن الكريم، ووجدت الناس ينصتون إليه، واستطاع بأسلوبه المتميز، الذي يستخدم الصوت والإشارة والحركة، أن يؤثر في العقول والقلوب، وفي الخاصة والعامة، في المثقفين والمتخصصين وفي الأميين، والقدرة على إقناع الخاصة وإفهام العامة، قلما يؤتاها إلا الرجال الأفذاذ، وقلما يوفق إليها إلا القليلون الذين منحهم الله تعالى من المواهب ما لم يمنح غيرهم.
ترك الشيخ الشعراوي القرآن مفسرًا في أشرطة في التليفزيونات العربية، وقد فسر أكثر القرآن. عندما لقيته في شهر رمضان في دبي، في جائزة دبي الدولية لشخصية العام، قال: إنه بقي عليه نحو ثلاثة أجزاء وأقل. وسألت الله تبارك وتعالى أن يمدَّ في عمره حتى ينتهي من هذا التفسير، ويبدو أن القدر لم يمهله حتى ينهيه، وقد كُتب هذا التفسير أيضًا، فمن تلاميذ الشيخ من يقومون بإعداد هذا التفسير، يحذفون المكررات، والكلمات العامية، وبعض ما قد يرى الشيخ حذفه، ثم ينشر جزءًا بعد آخر. كما ترك الشيخ الشعراوي كتبًا أخرى في موضوعات إسلامية، وفتاوى في موضوعات شتى”.
الاختلاف حول الشعراوي
وتابع القرضاوي: “اتفق الناس مع الشيخ الشعراوي واختلفوا معه، وهذه طبيعة العلم والعلماء لا يمكن أن يوجد عالم يتفق عليه الناس، كل الناس. كما قال الشاعر: ومَن في الناس يرضي كلَّ نفس * وبين هوى النفوس مدى بعيد؟
وقديما قالوا: رضا الناس غاية لا تدرك. والله تعالى يقول: {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود:118، 119]، قال كثير من المفسرين: {وَلِذَلِكَ}، أي للاختلاف خلقهم؛ لأنه حين خلقهم منح كلا منهم حرية العقل، وحرية الإرادة، وما دام لكل منهم عقله الحر، وإرادته الحرة، فلا بد أن يختلفوا، ولقد اختلف الناس من قبل على الرسل والأنبياء واختلفوا على المصلحين والعظماء.
وقال عليّ رضي الله عنه: “هلك في اثنان: محب غال ومبغض قالٍ”. من القلى وهو الكره، كما قال تعالى لرسوله: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى:3]، وهذه طبيعة الحياة والناس.
كان للشيخ نزعته الروحية الصوفية الظاهرة، وهناك مَن يعادون التصوف. وكان للشيخ آراء معينة في الفقه وفي غيره لا يوافقه عليها الآخرون، مثل رأيه في التبرع بالأعضاء، فكان لا يوافق عليها ولا يجيزها، ويقول: إن الإنسان وجسمه ملك الله، فلا يجوز له أن يتبرع به! وقد شنع بعض الناس على الشيخ في حياته من أجل هذا، ورددت عليهم في كتابي (فتاوى معاصرة) وقلت: إنه لا يجوز الحجر على أي عالم في أن يبدي رأيه، سواء وافقناه أو خالفناه، وأنا أخالف الشيخ ولكن من حقه أن يقول رأيه .
وكذلك كان له موقفه الرافض لتحليل فوائد البنوك، وقد كتب الشيخ الشعراوي تصديرا لكتابي (فوائد البنوك هي الربا الحرام)، قال فيه: (جزى الله خيراً بقية علماء المسلمين، الذين يغارون على فقه دينهم ويحاولون جاهدين أن يوظفوا الإسلام المعطل في البلاد التي تنسب إلى الإسلام.)”.
الشعراوي والحكام!
وعن علاقة الشعراوي بالحكام يقول القرضاوي: “كان الشيخ مسالمًا لا يرضى بمواجهة الحكام، ويأخذ الأمور بالأناة والتدرج، وهناك أناس يريدون أن يأخذوا كل شيء بالقوة وبالمواجهة، فلابد أن يخالفوا الشيخ رحمه الله. ولكن مهما اختلف الناس مع الشيخ الشعراوي، فلا يمكن أن يختلفوا في قيمته، وفي قدره، وفي دوره في الدعوة إلى الله، وفي مخاطبة الناس بلغة عصرهم، باللغة التي يفهمونها. وصدق الله العظيم إذ يقول: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [إبراهيم:4].”.
الوزارة!
وتابع القرضاوي: “ومما اغضب الناس على الشيخ الشعراوي تلك الفترة التي ولي فيها وزارة الأوقاف، وكما قال الشاعر قديمًا: إن نصف الناس أعداء لَمن ولي الأحكام هذا إن عدل والناس حساسون في هذه القضايا، خصوصًا في عصرنا الذي استبدَّ فيه المستبدون، فمَن عمل مع هؤلاء حمل معهم أوزارهم.
ومما أختلف فيه مع الشيخ الشعراوي رحمه الله، رأيه بأن الشورى معلمة وليست ملزمة، وقد رددت على هذا الرأي في أكثر من كتاب لي.
ومما اختلفت معه فيه أيضا وكذلك مع شيخنا الشيخ عبد المعز عبد الستار وغيرهما، تفسيره لبدايات سورة الإسراء، وأن المرة الأولى في إفساد بني إسرائيل كانت في عصر النبوة بعد البعثة المحمدية، وهي ما قام به بنو قينقاع وبنو النضير وبنو قريظة، وأهل خيبر، وكان العباد المسلطون عليهم هم النبي والصحابة، وأن إفسادتهم الثانية فهي ما يقومون به اليوم من علو كبير وطغيان عظيم، وانتهاك للحرمات، وإهدار للحقوق، وسفك الدماء، وغيرها. ورأيي أن هذا التفسير ضعيف لأوجه ذكرتها، وأن الأفسادتين وقعتا، كما أجمع على ذلك المفسرون، وأن إفساد بني إسرائيل الحالي يصدق فيه قول الله تعالى: {وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا} [الإسراء:8].”.
وتابع القرضاوي: “ومن المواقف المذكورة للشيخ الشعراوي، موقفه من النكبة، فقد اعتبرها منحة من الله تستحق السجود شكرا، لأن الناس فتنوا بالطغاة، وكادوا يعبدونهم ويقدسونهم، فأراد الله أن يريهم إن هؤلاء ليسوا شيئا، وأن يعيد الأمة إلى ربها، وترجع إلى دينها، فهذا أفضل من أي انتصار مؤقت!”.
وعن ذكرياته مع الشعراوي يقول القرضاوي: “الشعراوي أستاذي: ولقد عَرفتَ الشيخ الشعراوي وأنا طالب في المرحلة الثانوية، فقد درّسنا حينما جاءنا مدرسًا للبلاغة في المعهد الأحمدي بطنطا، وهو معهده الذي تخرج فيه، وتسامعنا نحن الطلاب أن قد جاء الشيخ الشعراوي، وهو مدرس عظيم، وشاعر عظيم، أما تدريسه، فقد كان فعلًا مدرسًا جذابًا، وكان يدرس البلاغة والأدب، كان يستطيع أن يوصل المعلومة إلى طلابه، بطريقته بالإشارة والحركة وضرب الأمثلة وغير ذلك.”.
إن كنت ريحا!
“كان الشيخ الشعراوي يُبَسّط المفاهيم الكبيرة لعموم الناس، سمعته ذات مرة في محاضرة وقد سُئل سؤالا معقدا عن نظرية التربية في الإسلام؟ فقال: لا توجد نظرية، ما هو مطلوب منك: أن تكون قدوة لابنك، قد تعلمه عشرين درسًا ألا يكذب، ثم تكذب أمامه ذات مرة، فتنسف كل ما علَّمته، فالقدوة مسألة ضرورية في التربية.
درسني الشيخ الشعراوي البلاغة وأنا في الرابعة الثانوية، وكان يدرسنا علم البيان في مادة البلاغة، فقد كان طلاب السنة الثالثة يدرسون علم المعاني، ونحن ندرس علم البيان، من تشبيه واستعارة ومجاز وكناية، وكنا مقبلين عليه بشغف، ولكن يبدو أن الشيخ معبأ ضدي أنا والعسال، وبعض طلاب الإخوان. كنا نعرف أن الشيخ متحمس لحزب الوفد، وكان معظم طلاب المعهد ضد الوفد، وكان الشيخ أُفهم أن طلاب الإخوان يعملون ضده، ولذلك حين سألته سؤالا في المجاز المرسل، وظن الشيخ أني أتحداه فقال لي: اسمع يا يوسف، إن كنت ريحا فقد لاقيت إعصارا! قلت له: سامحك الله يا شيخنا، والله ما أردت إلا الاستفهام.
ولكن الشيخ حين صحح ورقتي آخر العام أعطاني العلامة الكاملة.
وفي السنة التالية اعتقلنا وغبنا عنه، ولم يرني إلا بعد عدة سنوات، كان هو نازلا من – الأتوبيس – الحافلة وكنت أتهيأ لركوبه، فرأيته، فسلمت عليه وحييته، وعانقته وعانقني، وأظهر لي شوقه، وقال: أنا أسأل عنك، وأتتبع أخبارك، وعلمت أنك سافرت إلى قطر، وأنك محبوب هناك، والله يفتح عليك. ودعا لي كثيرا، وكان هو في الجزائر في ذلك الوقت.”.
شعره
وتابع القرضاوي: “وأما شعره فكان شعرًا مطبوعًا، وكان شاعرًا مبدعًا، وأذكر له قصيدة لا أذكر مطلعها، وإنما أذكر آخرها وكانت قصيدة رائعة، قالها في ذكرى الهجرة النبوية في معهد طنطا، قال: كل دنيا تبنى على غير دين فبناء على شفير هار
وقد ذكَّرته بهذا البيت عندما لقيته في شهر رمضان في دبي، وقد حضرت الاحتفال بتكريمه في دبي، حينما دعتني لجنة الجائزة الدولية لجائزة الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم ولي عهد دبي للقرآن الكريم ولتكريم الشخصيات الإسلامية، وكان الشيخ الشعراوي هو الشخصية الإسلامية الأولى. وذلك لعام 1418ه، ولما دعوني لحفل التكريم قلت لهم: إن من حقِّ الشيخ الشعراوي عليَّ أن أحضر الاحتفال بتكريمه. وقد ألقيت كلمة في تكريمه، وسُر الشيخ حينما رآني أبلغ السرور، وفرح وارتاح لمجيئي، ودعا لي كثيرًا حين عرف أني جئتُ لأشارك في تكريمه، وهو أهل أن يكرَّم، والمفروض فينا نحن المسلمين أن نكرم علماءنا الأفذاذ، من أمثال الشعراوي والغزالي وغيرهما.
جلست مع الشيخ الشعراوي جلسة طويلة، كانت حبيبة إلى قلبي، بثثته فيها حبى له، وإعزازي لعلمه، وتقديري لفضله، وأني حين سألته في معهد طنطا لم أكن والله اتحداه، بل أتعلم منه. وقد أخبرني أن مشايخ طنطا المعروفين من أمثال فلان وفلان، قد أخبروني أن طلاب الإخوان يتربصون بك، ومنهم القرضاوي والعسال ومن معهما.
فأحذرهم، وصدقنا هذا الكلام، وكان غلطا والله يسامحنا، ولقد سألت عنك من بعدها وتثبت أخبارك، وسرني ما وصلت إليه في أنحاء العالم، والحمد لله.
أُعطي الشيخ الشعراوي أوسمة وجوائز شتى، من مصر، ومن دبي، ومن غيرهما، ولكن أعظم وسام على صدره، وأعظم جائزة له: هي حب الناس وقبولهم”.
عيب الإسلاميين!
وتابع القرضاوي: “ضرورة احترام العلماء: وأنا أعيب على الإسلاميين أنهم لا يكرمون علماءهم ومفكريهم وأدباءهم، كما يفعل ذلك العلمانيون والماركسيون الذين يضعون هالات كبيرة على رجالهم، ولكننا لا نفعل ذلك مع رجالنا حتى نفقدهم.
ولا أستطيع إلا أن أنشد – ونحن نودع الشيخ الشعراوي – قول الشاعر: ذهب الرجال المقتدى بفعالهــم والمنكرون لكل فعل منكر وبقيت في خلف يزين بعضهم بعضًا ليدفع مُعْور عن معــور إن من حق علمائنا أن نكرمهم ونقدرهم ونقتبس من ضيائهم، ونأخذ العلم عنهم، وننتهز هذه الفرصة لنتربى على أيديهم. ولكن أجيالنا الجديدة للأسف لا تفعل ذلك، ولا تعرف قيمة العالم إلا حينما تفقده، وليس أمثال الشيخ الشعراوي بالكثيرين، بل هم القليل والأقل من القليل”.
واختتم القرضاوي قائلا: “إني لأفتح عيني حين أفتحها على كثير ولكن لا أرى أحدًا لا أرى في الساحة من يعوِّض الشعراوي والغزالي: علينا نحن المسلمين أن نهيئ من شبابنا مَن يسدُّ الثغرة ويلبي حاجة الأمة، ويقف أمام الموجات التي تريد أن تسلخ الأمة من جلدها، وأن تقطعها عن جذورها، وأن تهدمها من أساسها، وإلا فإن الأمة كلها آثمة إذا خلت ساحتها من أمثال هؤلاء الرجال الذين يعلمون الناس الخير، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن الله تعالى، وملائكته، وأهل السماوات، وأهل الأرض، حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت في البحر، ليصلُّون على معلِّم الناس الخير”.
لقد كان الشيخ الشعراوي من معلمي الخير للناس، وأعظم الخيرات هو القرآن. وفي الحديث الصحيح الذي رواه البخاري من طريق عثمان رضي الله عنه: “خيركم من تعلم القرآن وعلمه” .
وقد رحل الشيخ الشعراوي في وقت كانت الأمة أحوج ما تكون إليه من أجل إنقاذ الأزهر، مما يراد به من إضعاف التعليم الديني، والجور عليه، وكان رحمه الله يقف على رأس جبهة معارضة قوية للحيلولة دون ذلك.
وقد وعده المسؤولون في مصر أن يحققوا له طلبه، في تطوير القسم العلمي، والعناية بالقسم الأدبي الذي يخرج علماء أصول الدين، وهم خلاصة الأزهر، الذي يُعَد لتخريج الأجيال المرجوة للأمة، والتي تتفقه في الدين، وتنذر قومها إذا رجعوا إليهم. وإننا لنرجو أن يفي المسؤولون للشيخ بعد وفاته بما وعدوه في حياته.
إننا ونحن نقف مودعين لهذا الرجل العالم الرباني، والذواقة الإيماني، وأحد المربين الذين نوروا القلوب بعلم الإسلام، وبهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وربط الناس بالله وحشدهم في ساحة هذا الدين، إننا حينما نقف هذه الوقفة لا نبكي عليه، وإنما نبكي على أنفسنا، حينما نودع علماءنا، ولا نجد في الساحة من يملأها من الرجال الأفذاذ، نبكي على الأزهر، وهو يغيّر ويُنْتَقَص من أطرافه، وتنتقص العلوم الدينية واللغوية من مناهجه.
ولا يسعنا إلا أن ندعو الله تبارك وتعالى أن يغفر للشيخ الشعراوي، وأن يجعله راضيا مرضيا، وأن يتقبله في الصالحين، ويجزيه عن الأزهر، وعن العلم، وعن القرآن، وعن الإسلام وأمته خير ما يجزي به العلماء العاملين، والدعاة الصادقين، والأئمة المجاهدين، ونسأله أن يعوضنا عنه خيرًا، وأن يجعل في هذا الجيل مَن يخلفه في علمه وعمله، ويقوم بواجبات الدعوة إلى الله.”.
راي اليوم