قراءة في مدى دستورية التعديلات الدستورية الاخيرة
ما من شيء في هذا الكون الا ونجده مؤلفاً من جزئين، جوهر لا يمكن ان يقوم الشيء الا به، اذ يستمد ماهيته منه، ومظهر لا يغير تغيره ان وقع في ماهية الشيء، فعلى سبيل المثال نجد ان التحيز جوهر للمادة بحيث لا يتصور وجودها الا به، اما شكل المادة ولونها وما الى ذلك فلا يغير شيئاً من ماهيتها اي من انها مادة.
ولا يختلف الامر في نطاق القانون، ففي اي نظام قانوني اياً كانت طبيعته والقواعد المتضمنة به والغايات التي يسعى الى تحقيقها، نجد نوعين من القواعد، اولاهما قواعد كلية تحدد طبيعة هذا النظام واهم ما في من سمات اساسية يفقد ماهيته اذا هو تجاوزها، وإضافة الى هذه القواعد نجد هنالك قواعد أخرى تفصيلية لا يغير من شكل النظام القانوني وطبيعته اي تغيير يمكن ان يطرأ عليها، ما لم تتعارض هي في ذاتها مع القواعد الكلية التي أسلف ذكرها.
ومثل هذه المرونة هي ما تسمح بإمكانية الاختلاف والتفاوت في القواعد التفصيلية هي ما يفسر حالة الاختلاف والتنوع التي نجدها في كثير من الانظمة القانونية ذات الاصل المشترك او المنتمية للطبيعة القانونية الواحدة، مثال ذلك الانظمة القانونية التي تعترف بالملكية الخاصة او الفردية بخلاف الشيوعية التي تلغيها ولا تعترف بشيء سوى بالملكية الجماعية، اذ لا يغير من طبيعة هذه الانظمة تلك الاختلافات التفصيلية ببعض الجزئيات المتعلقة بالملكية كمدى تدخل الدولة لنزع هذه الملكية والمبررات التي يمكن ان يقوم عليها ذلك، ونطاق الوظيفة الاجتماعية للحق في الملكية ونطاق الحق الممنوح للافراد في التملك، كمثل تملك الثروات الطبيعية بباطن الارض، حيث نجده حقاً يقرب من الاطلاق في بعض البلدان في حين نجده ملغياً تماماً في بلدان أخرى، حيث تضع الدولة يدها عليه بالمطلق. مثل هذه الاختلافات في نطاق الملكية من حيث الموضوع ومن حيث الاشخاص لا يخل بالجوهر المشترك بين البلدان التي تعترف كأصل عام بالحق في الملكية الخاصة.
وفي الجمهورية الجزائرية، نجد الدستور لديهم قائماً على مجموعة من الاركان والاصول اي القواعد الكلية التي لا يجوز المساس بها بأي تعديل اي حتى بنص دستوري، حيث حدد الدستور ذاته بها، وقيد نفسه بحيث تكون اية قاعدة تفصيلية او جزئية مخالفة لهذه الاصول الثلاثة غير دستورية وان وردت هي ذاتها بصلب الدستور،وقد حددتها المادة (178) منه بقولها: [لا يمكن أيّ تعديل دستوري أن يمسّ :
1 – الطّابع الجمهوري للدّولة،
2 – النظام الدّيمقراطي القائم على التعدّدية الحزبية،
3 – الإسلام باعتباره دين الدّولة،
4 – العربية باعتبارها اللّغة الوطنية والرّسميّة،
5 – الحرّيات الأساسية وحقوق الإنسان والمواطن،
6 – سلامة التراب الوطني ووحدته].
وفي فرنسا، نجد في الدستور الفرنسي “قواعد ما فوق دستورية”، اي تسمو في ذاتها حتى على القواعد الجزئية او التفصيلية الواردة في الدستور وان تضمنها في متنه، حيث يراقب المجلس الدستوري هنالك مدى توافق القواعد الجزئية مع تلك الكلية او ما اصطلح هنالك على تسميتها بالقواعد ما فوق الدستورية، ومثالها “الجمهورية” و”الديمقراطية” و”حقوق الانسان الفردية”، هذه القواعد التي كرستها الثورة الفرنسية ودفع الشعب هنالك دماء كثيرة من اجل تقريرها، لا يمكن بحال ان تتغير بنظر “الامة الفرنسية” التي تتعاقب الاجيال فيها دون ان تتغير ذاتها كأمة ذات مفهوم ممتد في الزمن، هذه التركة الانسانية العظيمة التي يخلفها كل جيل للذي بعده هنالك لا يمكن ان تتم التضحية بها حتى عبر الاطر الدستورية لا لشيء الا لارتباطها في ذاتها بمفهوم الدولة الفرنسية والنظام الدستوري فيها وماهيته الذاتية ايضاً، اذ يرون اننا قد نكون تعاقبت علينا جمهوريات عدة اولى وثانية وثالثة (تبعاً للدساتير المتعاقبة هنالك) الا اننا في الاغلب لا نكون امام اي من هذه الجمهوريات او غيرها ان تغيرت اي من القواعد الكلية او “فوق الدستورية” التي قامت عليها اسس ودعائم الجمهورية في فرنسا، حتى تغيير الدستور برمته لم يكن ليغير الدعائم الاساسية التي قامت عليها الدولة الفرنسية بعد الثورة ولهذا كانت بطبيعة الحال “قواعد ما فوق دستورية”.
وتطبيقاً لما تقدم في نطاق القانون الدستوري، نجد الاختلافات في كيفية الانتخاب وتشكيل المجالس الممثلة للشعب بين كل من الاردن وبريطانيا مثلاً دون ان يخل ذلك بحقيقة ان كليهما ملكيتان دستوريتان، وبعد ان علمنا انواع الانظمة السياسية في العالم الى ملكية وجمهورية، كان الجوهر الذي يميز بينهما هو الطريق الذي تنتقل به رئاسة الدولة، وفيما اذا كان بالانتخاب العام الذي يجوز لاي شخص الترشح له، ام بالاختيار المقيد او التحديد المطلق بالوراثة كما هو الحال بالانظمة الملكية الوراثية، اما قواعد نيابة الملك وتحديد ولاية العهد وتفصيلاتها فلا تعدو ان تكون قواعد جزئية او تفصيلية لا يجوز لها بحال ان تخرج عن الاطار العام الذي حددته القاعدة الكلية المحددة لطبيعة نظام الحكم ومن انه ملكي وراثي، حيث يؤكد الدستور الاردني على هذه الحقيقة بقاعدة كلية من الاصول التي قامت عليها الملكية في الاردن الا وهي ما تنضمنه عجز المادة (1) من الدستور الاردني بقولها [… ونظام الحكم فيها ملكي وراثي].
والسؤال هنا: هل نكون امام ملكية اصلاً اذا ما تم تجاوز حكم هذه القاعدة الكلية وان بقاعدة متضمنة في صلب الدستور؟ وبالطرق الدستورية المحددة لتعديل قواعده؟ الجواب بكل قطع وتأكيد بلا.
وكذلك الحال نجده في المادة (26) من الدستور، والتي نصت على ان [تناط السلطة التنفيذية بالملك ويتولاها بواسطة وزارئه وفق احكام هذا الدستور]. وهذه ايضاً قاعدة دستورية كلية تقرر ان جلالة الملك يسود ولا يحكم، اذ انها مرتبطة بشكل اساسي وعضوي بمبدأ عدم مسؤولية الملك، والذي قررته المادة (30) من الدستور وهي ايضاً قاعدة كلية، اذ قررت ان [الملك هو رأس الدولة وهو مصون من كل تبعة ومسؤولية].
والعلاقة بين هاتين المادتين واضحة ووثيقة، اذ انه ولما كانت الذات الملكية مصونة من كل تبعة ومسؤولية، ولما كانت القاعدة الكلية المفترض تواجدها باي نظام قانوني اياً كان نوعه “الا صلاحية بغير مسؤولية”، كان لا بد من ان يتحمل أحد ما المسؤولية عن الصلاحيات التنفيذية التي يمارسها الملك باعتباره رأس السلطة التنفيذية، فكانت القاعدة التي قررتها المادة (26) المذكورة من الدستور والتي قررت ان الملك يمارس سلطاته (التنفيذية) بواسطة وزارئه، وقد فسرته محكمة العدل العليا سابقاً في العديد من قرارتها بالتوقيع الذي يجب ان يسبق توقيع جلالة الملك توقيع رئيس الوزراء والوزراء المعنيين بموضوع الرادة الملكية باعتبارها “تنفيذية” اي صدرت عن الملك بوصفه رأس السلطة التنفيذية، فاذا كانت كذلك، فمن ذا الذي يتحمل المسؤولية عنها اذا كان جلالة الملك مصون من اية تبعة ومسؤولية؟ الجواب بكل تأكيد بضرورة توقيع الوزير او الوزراء المعنيين عليها ليتحمل هو المسؤولية عنها، ولهذا نجد محكمة العدل العليا سابقاً راقبت حتى الارادات الملكية من حيث خلوها من توقيع الوزير المعني عليها، وكان لها الحق في ذلك بكل تأكيد.
وقد أكدت على هذه الحقيقة بشكل واضح قاعدة كلية أخرى هي التي تضمنها المادة (40) من الدستور والتي نصت على ان [يمارس الملك صلاحياته بارادة ملكية، وتكون الارادة الملكية موقعة كم رئيس الوزراء والوزير او الوزراء المختصين، يبدي الملك توقيعه فوق التواقيع المذكورة].
وتفسيرنا لنص المادة السابقة انها لا يقصد بها جميع صلاحيات الملك، وان كانت واردة على اطلاقها، وانما يقيدها بطبيعة الحال ذات ما جاء بالنص من عبارة (رئيس الوزراء والوزراء المعنيين) فلا يمكن ان تكون قصد منها سوى الصلاحيات التنفيذية دون تلك التي يمارسها الملك باعتباره جزءاً من السلطة التشريعية كالمصادقة على مشاريع القوانين ورفضها وحل مجلس الامة كذلك، وفي ذات السياق: دون ان يكون المقصود منها الصلاحيات التي يمكن ان تناط بجلالته فيما يتعلق بالسلطة القضائية، ولكن كيف؟
فيما يتعلق بالسلطة القضائية يدق الأمر قليلاً، فرغم عدم النص على ان جلالة الملك هو رأس السلطة القضائية ضماناً لاستقلالها وتأكيداً على الا سلطان على قضاتها سوى للقانون ولضمائرهم، فإن مركز جلالة الملك من كونه الحكم العدل الذي يوازن بين السلطات ويفض فيما بينها عند الاشتباك، ويرجح احداها على الاخرى عند الاختلاف إما بالاقالة (للحكومة) او بالحل (لمجلس النواب)، فان موقعه هذا يجعل من تعيينه لرئيس المجلس القضائي امراً مسوغاً بل وضرورياً، اذ يكفل الاستقلال التام للسلطة القضائية عن السلطتين التنفيذية والتشريعية، من خلال ضمان عدم تغول السلطة التنفيذية عليها كما كان يحدث بتطلب تنسيب رئيس الوزراء على تعيين رئيس المجلس القضائي.
وعليه، وصولاً الى ما نريده من هذا المقال، وباستبعاد رئيس المجلس القضائي من موضوع الحديث للاعتبارات متقدمة الذكر، فإن تعيين جلالة الملك لكل من مدير المخابرات العامة وقائد الجيش ومدير الدرك لا بد يكون بارادة ملكية موقع عليها من الوزير او الوزراء المعنيين، كوزير الداخلية بالنسبة لمدير المخابرات العامة ومدير الدرك ووزير الدفاع بالنسبة لقائد الجيش والذي هو بطبيعة الحال رئيس الوزراء على نحو ما جرى به العرف الدستوري بالاردن.
ودليلنا على صحة ما نقول هو بتأصيل صلاحية الملك في كل ذلك، فهل يمارسه باعتباره رأس السلطة التشريعية ام التنفيذية؟ الجواب بكل تأكيد انه يمارسها باعتباره رأس السلطة التنفيذية لا التشريعية، لسببين هما:
(1) الاول معيار شكلي: ويتمثل في الجهاز الذي ينتمي اليه كل منهما، وهو بكل تأكيد السلطة التنفيذية، لا لشيء الا لان جميع اولئك (وزير الدفاع ومدير المخابرات العامة ومدير الدرك) لا ينتمون لأ ي من السلطتين التشريعية والقضائية.
(2) والثاني معيار موضوعي: يتمثل في موضوع العمل الذي يقوم به كل من وزير الدفاع ومدير المخابرات العامة ومدير الدرك، وهو بكل تأكيد عمل تنفيذي بحكم طبيعته وانتمائه للوزارات المذكورة (الداخلية والدفاع)، اضافة الى ان عملهم تنفيذي ببساطة لانه لا يمكن ان يكون تشريعياً ولا قضائياً (وهي ما تعرف بطريقة الاستبعاد)، ومن المعلوم ان السلطة التنفيذية هي صاحبة الولاية العامة بتسيير جميع ما يتعلق بشؤون الدولة الداخلية منها والخارجية.
من كل ما تقدم، نخلص الى ان القاعدة المتضمنة ان الملك يسود ولا يحكم، هي من اصول النظام الملكي لدينا، وهي تغدو بذلك قاعدة كلية ترتبط بشكل وثيق بطبيعة وماهية النظام الدستوري بالأردن، وبخلافها يفقد ماهيته الذاتية وطبيعته، ولذا فلا يجوز تجاوزها بأية قاعدة تفصيلية أخرى كحال القاعدة موضوع التعديلات الاخيرة سنة 2014 والحالية كذلك، من منح جلالة الملك سلطة التعيين المنفرد لكل مناصب مدير المخابرات العامة ومدير الدرك وقائد الجيش، دون ان تتضمن ارادته اي توقيع من الوزراء المعنيين بوظائفهم، وان مثل هذه التعديلات التي وقعت والتي يتوقع وقوعها، جميعها سيثار التساؤل الجدي عن مدى دستوريتها رغم انها في ذاتها متضمنة في متن الدستور، لا لشيء الا لأن قواعد الدستور لا تستقيم على ذات الدرجة من القوة، وإنما هنالك قواعد يجب الحفاظ عليها وعدم المساس بها لأنها تتعلق بجوهر وماهية وطبيعة النظام الدستوري لدينا.
ذلك ما كان من أمر اجتهادي في هذه المسألة، ورأيي يبقى صواباً يحتمل الخطأ ورأي غيري يحتمل الصواب، فإن أصبت فمن الله وتوفيقه، وإن أخطأت فمن نفسي والشيطان، فعسى أن أكسب باجتهادي هذا الأجرين لا الأجر الواحد، والله من وراء القصد، وشكراً.
حفظ الله لنا الأردن ، وأدام علينا نعمة الأمن وألهمنا جميعاً ان نشكر كل الذي حبانا الله به من نعم ظاهرة وباطنة، وأن نفعل صالحاً يرضاه اليه المصير، اللهم امين.