قانون المسافات

قانون المسافات

بقلم: أنس معابرة

ربما تكون النصيحة الأشهر لمدربيّ قيادة السيارات: هي ضرورة المحافظة على #المسافة_الآمنة بين سيارتك وسيارات من هم حولك في الشارع، لكي تتمكن من تدارك أخطاءك أو حتى أخطاء الآخرين لو قدر الله وحصلتْ، وبالتالي تجنب حصول حادث قد ينتج عنه خسائر في الأرواح أو الممتلكات.
تلك المسافة التي يتوجب تواجدها أثناء القيادة هي ذاتها المسافة التي يُحبذ تواجدها بين شخصياتنا في أثناء تعاملاتنا وإختلاطنا ببعضنا، وهي نفسها المسافة التي قد تجنبنا إصطدام الشخصيات وصراع الأنفس وكيد القلوب.
لا بد أن يحيطَ الشخصُ نَفسه بمجموعةٍ من المسافات التي تحدد ملامح شخصيته، والتي من خلالها يتم توضيح ما هو خاص وما هو عام، وتعرِّف جميع من حوله ضرورة عدم تجاوز تلك المسافات إلا بموافقته المسبقة على تلك التجاوزات.
لا بد من مسافات بين الشخصيات في العمل، إذ لا يمكن لجميع الزملاء في العمل الإطلاع على جميع جوانب حياتك الشخصية والأسرية، أو إنتماءاتك العرقية والدينية، أو أوضاعك ومشاكلك المادية، أو حتى آراءك السياسية وسياساتك الاقتصادية ومشاريعك المستقبلية. لا بد أن تكون حازماً وواضحاً أمام جميع الزملاء، بأن تلك المواضيع هي مواضيع لا يتم مناقشتها خلال العمل، لأنها تقع ضمن المسافة الآمنة والتي لا تسمح لأحدهم بتخطيها.
لا بد من مسافات بين أبناء الوطن الواحد، الذين يشتركون في الأصل والمصير، ويعيشون جنباً الى جنب تحت مظلة قانون واحد ورئيس واحد وحكومة واحدة، ولكن شخصياتهم تختلف كما يختلف الأخوة الذين يولدون من نفس البطن.
لا بد من مسافات بين أفراد العشيرة الكبيرة، صحيح أنكم تنتمون الى أصول مشتركة، ويجمع بينكم الكثير من القواسم المشتركة كالدين واللغة والعائلة، ولكن يبقى لكلٍ منكم شخصيته المستقلة التي تحتفظ بتفاصيلٍ شخصيةٍ مختلفةٍ عن غيرها، لا تحب أن تشاركها مع أحد.
لا بد من مسافات بين أفراد الأسرة الواحدة، ربما نجتمع خلال اليوم الواحد عدة مرات على وجبات الطعام، أو خلال سهرة المساء، وربما يجمعنا مكان عمل أيضاً، ويجمعنا ما هو أكثر من أبناء العشرة الواحدة كالأب والأم، ولكن يبقى لكلٍ منا حدوده الشخصية الخاصة التي لا يحب أن يزاحمه فيها أحد.
إذا حاولت أن تتأمل في المشاكل التي تواجهك خلال يومك، فستجد أن الكثير منها حصل بسبب عدم توضيحك للمسافة الآمنة مع مَن هم حولك، نشب خلاف بينك وبين مديرك لأنه اعتقد أنه مدير حياتك كلها وليس عملك فقط وتدخل في خصوصياتك، وحصل سوء فهم مع أحد العمال لأنه إعتقد أن بإمكانه المزاح معك بشكل غير لائق أمام العمال كونك تتبسم في وجهه حين تراه، وأصبح من السهل على ولدك أن يرفض لك طلباً لأنك تتساهل معه عادةً، وغيرها الكثير من الأمثلة.
من أشهر الأمثلة على أولئك الأشخاص الذين تجاهلوا تلك المسافات بعض طالبي الشهرة على وسائل التواصل الإجتماعي أو اليوتيوب، الذي يصورون جميع لحظات حياتهم الخاصة والعامة، مع أمكان تواجدهم والأشخاص المرافقون لهم، وفي غالب الأحيان مع أفراد أسرتهم، الأمر الذي يدفعهم الى التوتر والقلق نتيجة لإنكشاف تفاصيل حياتهم للجميع، وغياب المسافات الآمنة بينهم وبين أفراد المجتمع والمتابعين لهم، ولكنهم للأسف يدركون ذلك بعد فوات الأوان.
هذه ليست دعوة الى التوحد والابتعاد عن الناس، وتجنب الإجتماعات واللقاءات وتبادل الأحاديث والأفكار مع الجميع، في الشارع أو العمل، أو دار العبادة أو المنزل والمجلس، فالإنسان لا يستطيع أن يعيش لوحده كما قال أبن خلدون: “الإنسان مدني بالطبع”، أي أنه يميل الى تشكيل العلاقات الاجتماعية وتقوية صلاته مع من هم حوله، بقدر ما هي دعوة الى تنظيم المسافات بينك وبين جميع أفراد المجتمع على إختلاف قربهم اليك، فما أجمل العلاقات مع الآخرين كما يقول ابن خلدون، ولكن مع نظام ومسافات تحكم كل تلك العلاقات.

مقالات ذات صلة
اظهر المزيد

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى