في وداع الدكتور محمود الحموري
د. أنيس خصاونة
أربعون يوما مضت على الرحيل المبكر والمفاجئ للمرحوم الأستاذ الجامعي والأديب والناشط السياسي الدكتور محمود الحموري . دأب الدكتور الحموري على المشاركة في كثير من المناسبات والفعاليات الأدبية والقصصية والشعرية والسياسية التي احتضنتها جامعتي اليرموك والعلوم والتكنولوجيا والمؤسسات الثقافية في اربد .شخصية محمود الحموري جذابة جاذبة تعددت مواهبها وتنوعت إبداعاتها وإن فقدانه لحدث جلل يجعل العواطف جياشة ،والكلمات قاصرة عن التعبير عن مكنون المعاني والمشاعر لغياب هذه الشخصية التربوية والوطنية .
المرحوم الدكتور محمود أكاديمي متمرس في علمه وتخصصه الكيمياء التحليلية ،عرفته قاعات العلم والتدريس في جامعة العلوم والتكنولوجيا مدرسا مخلصا في تعليمه… أمينا على طلبته…علمه غزير…عطاؤه بلا حدود …خلقه وتعامله يماثل اسمه محمود .
أما على الصعيد الثقافي والأدبي ورغم أن طبيعة حقل الكيمياء عادة ما تفرض على أصحاب التخصص الانخراط التام في الشأن الفني والتخصصي والمعادلات والتجارب، فقد وجد فقيدنا أبا عمرو متسعا وفسحة واسعة لاهتماماته الثقافية والأدبية والشعرية والنقدية ،وكاد لا يفوته ملتقى أو منتدى أو حوار في جامعة اليرموك أو غرفة تجارة إربد أو مركزها الثقافي أو غيرها إلا وكان حاضرا مستمعا أحيانا ،أو محاضرا ،أو معقبا، أو مقدما لضيف كبير أو رواية أو كتاب قيم مفيد.
فقيدنا الكبير أحب وطنه الأردن وكتب له وعنه ما كتب من أفكار ومقالات عجت بها مواقع صحفية متعددة. تغنى بالوطن وأهله ونضالاته وتضحيات شعبه وجيشه ونشر عن أحداث وصور من صفحات العز والفخار للألى من الأردنيين الذين ضحوا من أجل ثرى الأردن .
حب محمود الحموري للوطن لم يصرفه عن الكتابة لإربد وتاريخها ورجالاتها وعماراتها وإعمارها، ولعل انخراطه في مؤسسة إعمار إربد رئيسا للجنة الثقافة فيها أتاح له أن يترجم بعض مواهبه الثقافية واهتماماته الشخصية بإربد المدينة التي أحبها وأحبته.
كتابات الدكتور محمود الحموري كانت ذات نكهة خاصة تحمل رسائل جادة بأسلوب رمزي ناقد أحيانا، وساخر أحيانا أخرى.كتب عن عامل الوطن “حسنين الأسيوطي” وكتب عن الموسرجي “فوزي إسماعيل”، المعلم السابق في مدارس وزارة التربية والتعليم والذي يحمل شهادتي البكالوريوس والماجستير في الشريعة حيث قام بصيانة المرافق الصحية في منزله ذات مرة وكيف قام ابا عمرو وببراعة بنسج قصة هادفة وتوظيف مشاهداته ومقاربته لعمليات الإصلاح التي مارسها فوزي في البيت لعمليات الإصلاح اللازمة لبعض الدول العربية لتجنب ارتدادات الربيع العربي، بسبب تماثل الأسباب الموجبة لمطالبات شعبية ونقابية من حكوماتهم بإصلاحات إدارية ودستورية، وزيادة الرواتب بسبب الغلاء، مع مطالباتهم بمحاسبة الفاسدين في بلدانهم.
كتب محمود الحموري مقالات ومطالعات في السياسة ،بعضها مباشر وبعضها رمزي هادف… تفاعل مع الأحداث اليومية للأردنيين ومعاناتهم ونوادرهم ودعابتهم وسخرها بأسلوب استدلالي أدبي محترف مستنبطا منها مغازي ومقاصد سياسية تعبيرية فكتب عن قصة الشرشف الأردني الضائع والحرقة والمرارة التي شعرت بها تلك النشمية الحورانية صاحبة الشرشف، ووظف تلك القصة للتعبير بطريقة ملفتة عن قوى الظلم والفساد والإفساد في هذا العالم وأنا أقتبس هنا من كلمات الفقيد الكبير فيقول” فالشرشف الأردني يروي قصة ظلم وفساد وتواطؤ غير مبرر من قوى داخلية غاشمة وخارجية منتفعة، الأمر الذي قد يكون بعد تأويل قصته أشبه بقضية فلسطين وفرض صفقة القرن واعتبار إدارة ترامب القدس عاصمة موحدة لإسرائيل ونقل السفارة الأمريكية إليها، أو أشبه بسرقة مقدرات الوطن من بعض المسئولين أو عدم تكافؤ الفرص في عدالة التوظيف والتعيينات بمرافق الدولة… “انتهى الاقتباس
الحديث عن أبا عمرو لا يستوي ولا يستكمل دون الإشارة إلى اهتماماته السياسية وشخصيته الإصلاحية التي لم تعكسها فقط كتاباته الصحفية، ولكن جسدتها مشاركاته المستمرة في معظم الأنشطة والفعاليات السياسية التي شهدتها الساحات في اربد وعمان ومجمعات النقابات والقاعات والمنتديات.بالمناسبة، هذه السمة الإصلاحية تبدوا سمة عائلية لأبا عمرو ولشقيقه معالي أبا طارق أطال الله في عمره ومتعه بموفور الصحة. لقد جمعتنا والمرحوم مناسبات ووقفات ومطالبات عديدة غايتها الوطن ورفعته وعزته فكان إيمان محمود الحموري بمطالبه الإصلاحية كأيمانه بالوطن وقيادته وكرامة أهله .
ستفتقدك أخي أبا عمرو قاعات التدريس، ومختبرات البحث العلمي، وردهات ،وساحات جامعتك التي أحببت…. سيفتقدك زملاءك وطلابك في جامعة العلوم والتكنولوجيا …ستفتقدك الساحات والميادين وملتقيات الثقافة …ستفتقدك اربد مدينة الثقافة العربية لعام 2021 والتي طالما تغنيت بها وكتبت عنها وعن ضرورة الاستعداد لهذه المناسبة…سيفتقدك قراءك ومحبيك الذين يتابعون ما كانت تجود به أفكارك وتفيض به خواطرك ومشاعرك.
أما عائلتك وأبناءك أخي محمود فيكفيهم فخرا سيرتك الطيبة التي عكستها الحشود التي شيعتك وأمت بيت الأجر مكلومة حزينة على رحيلك…يكفي عمرو وإخوانه وأخواته فخرا بإرث والدهم من مودة الناس ومحبتهم له…صحيح أن محمود الحموري لم يتقلد تلك المواقع والمناصب التي يهوى بعض الأردنيين بهرجتها وسحر ألقابها، لكنه بنظرنا تقلد أرفع منها ،حيث موقعه كأستاذ جامعي مكنه من الإسهام في تعليم الآلاف من أبنائنا والإسهام في بناء شخصياتهم فهذا لعمري عطاء لا يفوقه إلا عطاء الشهداء والمرابطين على الثغور…
على فراق من مثلك أخي محمود الحموري تنفطر القلوب والنبضات …وعلى من مثلك تذرف الدموع والعبرات… ونحن ندرك ونؤمن تماما بأن الرثاء لا يرفع ،والحزن لا يشفع ،ولكن الدعاء لرب العزة لك بالرحمة والمغفرة إن شاء الله متقبل وأنفع . نسأل المولى جل في علاه أن يكرم نزلك مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا، وأن تكون ممن يقال لهم سلام قولا من رب رحيم… بوركت سيرتك العطرة وبورك نسلك وزرعك وعلى روحك الطيبة الطاهرة تتنزل شآبيب الرحمة والغفران وعلى قبرك نقرأ الفاتحة وما تيسر من سورتي البقرة وآل عمران ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم…