في ذكرى وفاة المرحومة “عيب”

في #ذكرى #وفاة #المرحومة#عيب

الأستاذ الدكتور: رشيد عبّاس

وفاءً لما تركته فينا “عيب” من #قيم_سامية ونبيلة فقد كان لزاماً عليّ إلا أن أكتب عنها ما تيسر من الآثار الطيبة التي خلدتّها فينا “عيب”.. كنت متردداً للكتابة عنها كونها غائبة أو ربما غيبها من يدعون انهم من أصحاب الفكر المدني, وحاولت لملمت ما كتبتُ عنها بذكرى وفاتها, ومع ذلك لن ولم أعطِها شيئا من حقها, كيف لا ولها علينا جميعاً كثير من الفضل والمعروف والذين لا يمكن أن نوفيها حقها مهما طال الزمن وبعُد:

كانت “عيب” تملأ البيوت والشوارع والأسواق, كنا نجدها في كل الأماكن, وكانت على لسان الكبار والصغار, الرجال منهم والنساء, كنا نلمحها صباح مساء, وكانت تتواجد في كل الفصول, ففي الصيف كانت مُحتشمة متسترة, وفي الخريف كانت تأبى أن تخلع ثوبها, وفي الشتاء كانت شمسها تظهر من خلف الستائر, ناهيك عن الربيع الذي كانت فيه فراشات منديلها متلثمة بلثام متداخل. 

 “عيب” مدرسة بحد ذاتها.. ففي المناهج كانت “عيب” بين السطور تظهر تارة وتختفي تارة أخرى, كانت مختبئة خلف الصور من على صفحات الكتب المدرسية, وأكثر من ذلك كانت “عيب” لغة متداولة بين المدراء والمعلمين والطلبة, وكان المجتمع المحلي وأولياء الامور يميلون بها على المدارس حين يتطاول البعض على الآخر, كانت “عيب” تُقيدُ سلوك الطلبة وتمنعهم من مطاردة (المراييل) الخضراء, وكانت تحاصر من يتلفظ منهم بكلمة سوء, وكانت تقف حجر عثرة أمام المدخنين الصغار خلف الاسوار ومن على مفترقات الطرق.

“عيب” جامعة بحد ذاتها.. فقد كانت حاضرة في المدرجات والمسارح المغلقة, ومتواجدة في المكتبات والمختبرات المنزوية, كانت “عيب” تختبئ بين الشجر المتكأ بعضه على بعض عند المنعطفات المنحدرة, كانت تتلون في زوايا الكافتيريا, وكم مرة شوهدت تتجول بين الطوابق وتحت الادراج المنحنية! حتى قيل انها كانت تتسلل ببطيء في المكاتب خافتة الانوار.. وخصوصاً بعد الظهر وقبيل الغروب.      

“عيب” أكاديمية بحد ذاتها.. فقد عشق افلاطون كلمة “عيب” وبنى صرحه الكبير (أكاديمية أفلاطون) عليها، وهو أول صرح فلسفي وعلمي أسسه الفيلسوف اليوناني أفلاطون عام 387 ق.م، في مدينة أثينا في اليونان، واحتوت الأكاديمية على مكتبة ضخمة، وساحة للتنزه، وبستان جميل، درس فيها أهم أعلام الفلسفة اليونانية، واستمر أفلاطون في التدريس فيها حتى وفاته، ومن أهم المواضيع التي درسها أفلاطون في الأكاديمية كلمة “عيب” وأضاف معها شقيقتها الكبرى “حرام” والصغرى “خجل”, قفز أفلاطون بهما إلى اضخم  صرح  قيمي, والذي غزا العالم تحت اسم فلسفة (الأخلاق), حتى باتت لاحقاً هذه الفلسفة مادة تُدرّس في جميع انحاء العالم إلى يومنا هذا.

كلمة “عيب” كانت تتردد على مسامعنا في البيوت كل لحظة وما زال صداها مطبوع على جدران بيوتنا القديمة: كنا نسمع باستمرار عبارة (عيب عليك)..هذا ابن عمك وذاك ابن خالك وتلك ابنة عمتك, وكنا نسمع باستمرار عبارة (عيب عليك)..هذا جارك, وذاك ابن حارتك وتلك ابنة بلدك, وكنا نسمع باستمرار عبارة (عيب عليك)..هذا صديقك وذاك زميلك وتلك رفيقة اختك, نعم لقد امتلأت آذاننا منها كثيرا حتى ارتوت بها.

كانت “عيب” قلادة ذهبية تزين صدور الفتيات والنساء, كانت “عيب” ترافقنا اينما كنا وتواجدنا, كانت “عيب” على قصب العباءات السوداء ممشوقة, وكانت تميل مع (عُقُل) الرجال, وكانت مرشوقة على (شُمغ) أصحاب اليمين, وكانت “عيب” ترتمي مع فراشهم, كانت تمتد مع (وسائد) الشيوخ, وأكثر من ذلك كانت حاضرة عند قرع الابواب ثلاث مرات للسماح للدخول.

يكفي لـ”عيب” رحمها الله انها جاءت في ثنايا ومعاني منظومة القيم الحميدة تحلى بها افضل خلق الله ونزلت من فوق سبع سماوات.. (وإنك لعلى خلق عظيم).  

 اليوم وللأسف الشديد..افتقدنا “عيب” ونبحثُ عنها هنا وهناك, نقلّبُ وجوه بعضنا البعض عنها فلا نجدها..انها ضائعة ومفقودة وغائبة, افتقدناها في البيوت وفي الشوارع والاسواق, افتقدناها في المدارس والجامعات والاكاديميات أيضاً, افتقدناها في المناهج والكتب والامتحانات (العلامات) كذلك, افتقدناها في مواقع التواصل الاجتماعي المنفلتة, ونعجب قائلين: الله اكبر لا تنشئة أسرية زرعتها فينا, ولا تربية وتعليم أعادتها لنا, ولا (عبادات) سماوية احيتها فينا, حتى أننا قتلنا شقيقتها الكبرى “حرام” بقصد, واعتقلنا الصغرى “خجل” ونبحثُ عن “حياء” في كل الاماكن, دون جدوى.

لا يسعنا إلا أن نقول رحم الله الـ”عيب” الذي كان فينا سابقاً رحمة واسعة, وجعل مأواها الجنة, وإنا لله وإنا إليه راجعون, ونتساءل هنا: هل من يوم نسميه يوم الـ “عيب” العالمي, أعتقد أن مثل هذا اليوم بعيد المنال طالما أن أكبر “عيب” هو أن نُعيب ما فينا مثله. 

يقال والقول على ذمة الراوي أن أختها من أبيها “حياء” مهاجرة منذُ زمن بعيد..

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى