سواليف
مرت ساعات تلك الليلة متثاقلة بطيئة، العيون زائغة تترقب، والآذان مفتوحة تحاول اختراق السمع، والأجساد أصابها الهزال، والقلوب تترقب لحظة الفض ككل ليلة على مدار شهر ونصف مضى، ومع إشراق نور صباح 14 آب/ أغسطس 2013، شهدت مصر أسوأ مجزرة في تاريخها الحديث.
“عربي21″، تحدثت إلى عدد ممن شهدوا مجزرة ميدان رابعة العدوية، وبعض أهالي الضحايا الذين قضوا برصاص الجيش والشرطة المصرية يوم فض اعتصام أنصار الرئيس محمد مرسي في ميداني رابعة (شرق القاهرة) والنهضة (غرب القاهرة).
أسوأ كابوس
يقول محمد. م، أحد المشاركين في الاعتصام بميدان رابعة: “كل الذي أذكره أن ما حدث كان شيء بشع لم يخطر ببالي في أسوأ الكوابيس، ولقد قضيت الأسبوع الأول بعد الفض مستخدما الحبوب المنومة لأغيب عن الواقع، حيث كانت وطأة الكارثة على قريتي ثقيلا بعدما دُفن أربعة من خيرة شبابها، وأتذكر أن شهداء قريتي في حرب اليمن وحربي 1967 و1973 لا يتجاوز الأربعة أيضا”.
وقال المُعلم الذي رفض ذكر اسمه، خوفا من الملاحقة الأمنية: “القرى التابعة لمدينتي سقط منها 30 شهيدا برصاص العسكر، وهو عدد لم يسقط برصاص الإنجليز ولا اليهود الذين لم يتعاملوا مع المصريين بهذه الطريقة الهمجية البربرية”.
وجيه عاد “لينال الشهادة”
أما عصام محمد فيروي شهادته على المجزرة قائلا: “هذه أول مرة أكتب فيها عن هذا اليوم العصيب فضلا عن تذكره. كان معي أخي الشهيد وجيه (44 عاما) رجل أعمال، وأخي (د. وليد)، وأختي (أم أحمد)، وابني وابن أخي، وكان وجيه له فترة طويلة لم ير ابنته التي أنجبها بعد سنوات طويلة من الزواج، فغادر رابعة بعد الفجر لرؤيتها، وفي الطريق سمع عن احتمال فض رابعة، فقرر العودة للميدان لينال الشهادة.”
ويضيف عصام في شهادته لـ”عربي21″: “ماهو إلا وقت قليل وبدأ الكلام عن فض الاعتصام، واستعد الجميع بالكمامات، والسواتر الترابية، وحراسة المداخل، في أثناء ذلك إذا بأخي وجيه بيننا مبتسما ويقول: كيف أذهب وأترككم؟”.
الموت يحاصر الجميع
ويتابع المهندس المعماري شهادته قائلا: “لحظات وبدأت المواجهات بين الآلة الباطشة والمدافعين العزّل. غاز بكل أنواعه، ورصاص حي وقنابل صوت، وطائرات تحلق وقناصة أعلى المباني، والشهداء والجرحى يتساقطون، ولا تدري من أين تأتيك الرصاصة، فالضرب من جميع الاتجاهات، ناهيك عن الغاز الذي يخنقنا، ونحن نقاوم بالكمامات والماء والخل والبيبسي.. إلخ”.
ويضيف: “أغمي عليّ بسبب الغاز، وأنا مريض كبد وضغط وسكر، وقبل الساعة الثانية وجدت ابني ينقل لي خبر استشهاد عمه وجيه، تأثرت كثيرا، فقد كنت أعلم حرصه على الشهادة، ويوم مجزرة المنصة لم يستطيع التقدم للصفوف الأولى لوجود ابنته وزوجته معه، ولذا في يوم الفض كان هو وابن أخي محمد – معتقل حاليا في وادي النطرون وحكم بثلاث سنوات من المحكمة العسكرية – بجوار أول شهيد في بداية فض الاعتصام”.
رقم 21
ويضيف عصام في شهادته: “توجهنا للمستشفى الميداني، ووجدنا اسم وجيه رقم 21 في كشوف الشهداء، ودخلنا العنبر فوجدناه مليئا بالجثث التي تخطيناها بصعوبة، ولقيناه مسجى مبتسما وعلامات الرضا على وجه، فبكينا جميعا، ثم قلت في نفسي: فزت يا أخي”.
ويتابع عصام: “في هذه الأثناء دخل الدكتور محمد البلتاجي لرؤية ابنته الشهيدة أسماء، وكانت تحاوره إحدى القنوات الفضائية، ولم يمر وقت طويل، ثم بدأ ضرب المستشفى، وطالب الأطباء والمسعفون الجميع بالخروج والهرب من الرصاص المتساقط كالمطر، وقنابل الصوت التي تهز المكان، وبدأ الطيران يحوم فوق المكان ثم تصاعد الغاز بشكل بشع، وتفرقنا أنا وإخوتي مع الضرب، وسار الجميع في طابور طويل تساقط فيه عشرات الشهداء”.
ويختم عصام شهادته قائلا: “اجتمعت مع إخوتي بعد عناء، وقلت لهم كيف نذهب وليس معنا وجيه، ماذا سنقول لأبي وأمي، خاصة وقد جاءت أخبار عن حرق المستشفي وحرق الجثث، ونظرا لحالتي الصحية ذهب أخي وأختي إلى مستشفى رابعة وبعد محاولات مضنية ومخاطر شديدة أحضروا جثمانه محمولا في غطاء، ثم بدأنا مغامرة أخرى كبيرة تلك الليلة لاستخراج تصاريح الدفن والتقرير الطبي من مشرحة زينهم”.
شجاعة النساء
أما محمد عبد المنعم، الإمام والخطيب بوزارة الأوقاف، فيقول في شهادته حول المجزرة لـ”عربي21″: “بعد صلاة الفجر شعرنا بحركة غريبة حول الميدان، وقتها كان معي إبني الصغير (6 سنوات) ومجموعة من النساء، فذهب أخي الأصغر إلى أحد سكان منطقة رابعة واتفق معه أن يسلم ابني الصغير إلى أهلي إذا متنا وأعطاه العنوان”.
ويضيف عبد المنعم، المطارد أمنيا من قبل سلطات الانقلاب: “فكرت وأخي – المعتقل منذ عام تقريبا – أن يخرج هو بالأطفال والنساء اللآئي رفض معظمهن الخروج وقلن: دعونا نلقي الشهادة معكم، وبالفعل خرج ابني الصغير واثنتين من النساء في سيارة أحد المعتصمين”.
وكان الشيخ عبد المنعم حينها عائدا لتوه من بعثة دعوية تابعة لوزارة الأوقاف في إسبانيا.
ويتابع: “كنا في مقدمة ميدان رابعة من ناحية النصب التذكاري وجامعة الأزهر، وبدأ الضرب في المليان الساعة السادسة صباحا، وكان الشباب في الصفوف الأولى وكبار السن والنساء في المؤخرة، وشاهدت أحد الشباب يسقط مصابا برصاصة فجريت نحوه فوجدته خالد خالد، من قريتي، فحملته سريعا، وعندها أصابتني رصاصة غدر تحت إبطي فسقطت على الفور أنا وخالد”.
المشهد في المستشفى
ويتحدث عبد المنعم عن مشاهداته في المشفى الميداني في تلك اللحظة، قائلا: “ذهبت إلى مستشفى رابعة، وهناك وجدت الجثث تُنقل تباعا بالمئات، تلقيت إنقاذا سريعا، وبعد الظهر بدأت قوات الانقلاب في قصف مسجد رابعة بالرصاص الحي والخرطوش والغاز المسيل للدموع، ثم عاد بعض الهدوء للمستشفى، وعندها اكتظت المستشفى بالجثث. وفي الساعة الرابعة اقتحمت قوات الانقلاب المستشفى وأمرونا نحن المصابين ورفقاء الشهداء برفع أيدينا لأعلى. وفي الخامسة سمحوا بالخروج، وهنا تمالكت نفسي وبحثت عن رفقاء قريتي وخرجنا بجثمان الشهيد وجيه محمد، بعدما بكت أخته أمام الضباط وقبلت يد كبيرهم حتى يسمح لنا بحمل جثمانه، قبل أن يحرقوا المسجد والمستشفى بمن فيه من جثث ومصابين لا يستطيعون الحركة”.
والد عبد المنعم وصبر أيوب
يقول عنه أهالي قريته: “هذا الرجل علمّنا كيف كان صبر أيوب”، تجده في كل مناسبة (فرح أو حزن) يوزع ابتسامة الرضا على الجميع بينما كل العيون تنظر إليه مشفقة عليه لمصابه، إنه الحاج صبحي والد عبد المنعم الذي قتل خلال فض الاعتصام، والمعتقلين ناصر وعبد العزيز.
يقول ابنه الأكبر، الأستاذ في جامعة الأزهر: “تم قنص أخي عبد المنعم برصاص قوات الانقلاب عند النصب التذكاري (المنصة)، يوم 27 تموز/ي وليو 2014 حيث أصابته رصاصات الغدر بيد قناص من فوق مباني جامعة الأزهر”.
ويضيف في حديثه لـ”عربي 21″: “أخي كان يعمل محاسبا في إحدي شركات العاشر من رمضان، وكنا نبحث له عن عروسة، فأراد الله أن يزوجه بالحور العين، حيث استشهد في الساعة الثامنة من صباح 18 رمضان، وهو صائم”.
“طلب الشهادة فنالها”
وتابع: “كان الشهيد عبد المنعم يردد دائما: الحياة قصيرة فلا وقت لدي لكراهية أحد. وقبل استشهاده ترك فوق مكتبه في العمل ورقة مكتوب عليها: اللهم اغفر لأبي وأمي، وارزقني الشهادة واجعلها خالصة لك. كما جلس مع أخي الأصغر عبد العزيز (أصيب في مجزرة الفض واعتقل منذ عام مضى) قبل مجزرة الحرس الجمهوري (قتل فيها ما يزيد عن 250 معتصما من مناهضي الانقلاب). وقال: إذا اختارني الله للشهادة فأسأله تعالى أن تكون خالصة ولا تجعل أحد يصورني بعد نيل الشهادة إن شاء الله”.
“ويشير شقيقه إلى أنه “عندما كان يذهب لميدان رابعة ويترك العمل؛ كان صاحب العمل يحتسبها أيام عمل بينما هو يصر على خصمها من راتبه (كما يقول صاحب العمل)، وعندما علم زملاؤه في الجيش باستشهاده قالوا: هو من علمنا الصلاة وقراءة القرآن وكان يحثنا على حب الوطن والانتماء إليه والاستعداد بكل قوة للدفاع عنه”.
رضا
أما رضا فيروي شهادته حول مجزرة رابعة قائلا: “كنت ضمن فريق تأمين الميدان، وحراس بوابته من جهة النصب التذكاري، وكانت الشواهد توحى بشيء ما. وفي الساعة السابعة إلا ربع (صباحا) تقريبا رأينا الدبابات تحيط بالميدان، وبدأ إطلاق قنابل الغاز والرصاص الحي، وكنا نقاوم وسلاحنا الطوب، بينما يتساقط من حولنا الجرحى والشهداء بالعشرات، ورأيت وقائع ما كنت أتخيل أن أراها في الأحلام.. رؤوس تنفجر.. أحشاء على الأرض”.
ويضيف رضا لـ”عربي21″: “ظل الأمر هكذا حتى الظهر، ولما عجزت قوات الانقلاب في اقتحام الميدان بسبب حاجز أسمنتى كنا قد أقمناه، جاءت الطائرات لتضربنا من السماء، والقناصة من أسطح المباني، وأصبحنا محاصرين أرضا وجوا، فجاءتنى فكرة الدخان، وقطعنا بعض الأشجار الخضراء وحرقناها حتى يمتلء الجو بالدخان فلا يرونا”.
وتابع رضا: “أُنهكت قوانا وأخرجنا كل طاقتنا، وعند الساعة الخامسة (مساء) رأيت الجميع ينسحب من الميدان رافعا يده تحت تهديد أسلحة الجيش، وفى نهاية الشارع أطلقت الشرطة النار علينا فتفرقنا فى الشوارع، ودخلت مع بعض المعتصمين أحد المباني فى مدينة نصر وبتنا فيها حتى الصباح”.
“أخي أنت حر”
يحكي رضا عن مقتل أحد رفاقه، وهو فادي فريد، يوم 16 آب/ أغسطس 2013 بمجزرة رمسيس، ويقول: “ونحن في طريقنا نحو القاهرة أمسك المهندس فادي بعلامة في أذنه، وقال لي: لا تنسى هذه العلامة حتى تعرف جثماني إذا استشهدت وأحرقوه”.
ويضيف: “وصلنا الميدان وصلينا الجمعة والعصر جمع تقديم، وبعدها بدقائق بدأت قوات الانقلاب في ضرب النار وإلقاء قنابل الغاز، وعند الساعة الثالثة صعدت فوق كوبرى رمسيس عند حائط الصد الأول فوجدت فادي سبقني، ولما رآنى فرح جدا وأخذنى بين أحضانه، وقال: ده آخر حضن بيني وبينك، وأوصاني بأهله خيرا، فنظرت إليه مبتسما وقلت له: سأسبقك إن شاء الله”.
ويتابع رضا: “مع زيادة قصف الطائرات بدأنا نجرى، حتى أصيب شاب برصاصة في قدمه، فأخذته إلى المستشفى الميدانى، وعندما رجعت وجدت فادي مصابا برصاصة قناص من إحدى الطائرات؛ دخلت كتفه وخرجت من جنبه، ومات في المستشفى على كلمات أنشودة “أخي أنت حر حسب وصيته”.
إسلام لم يرد على آخر مكالمة
ويروي أشرف الزندحي، والد الضحية إسلام، فيقول: “سمعت أنباء فض رابعة الساعة السادسة صباحا، فاتصلت بسرعة على ابني إسلام الموجود فى الميدان لكنه لم يرد، فقررت الذهاب للميدان فورا، لكن إسلام اتصل بوالدته وقال لها إن الأمن يهاجم الآن الميدان، وأغلق الهاتف بسبب ما يواجهونه من شدة ضرب الرصاص”.
ويضيف الزندحي في حديثه لـ”عربي21″: “تواصلت مع إخوتي وتوجهنا نحو ميدان النهضة، فلم نستطيع الدخول، فذهبنا إلى ميدان مصطفى محمود بالمهندسين، وهناك وجدنا قوات الشرطة والجيش تضرب النار بلا رحمة تجاه الحشود الموجودة بالميدان، والتي لا تملك غير الطوب للدفاع عن نفسها”.
الميدان مغلق
ويضيف والد إسلام: “عند الساعة الثامنة والنصف جاءني اتصال يؤكد استشهاد إسلام، حاولت بكل السبل دخول ميدان رابعة دون جدوى، فعدت لميدان محمود وبقيت به حتى صلاة المغرب، وبعدها قررت العودة إلى قريتي، كرداسة، بعدما تأكدت أن جثمان ابني في يد بعض الزملاء”.
ويتابع: “هناك في كرداسة شاهدت بعض السيارات المحترقة فى مدخل المدينة بجوار مركز كرداسة، وكنا سمعنا أثناء النهار أن بعض الملثمين قاموا باقتحام المركز وقتل بعض من فيه وحرق مبنى المركز، وذهبت إلى بيت العائلة واستقبلنى العشرات من المعزيين”.
حرقوا المسجد والمستشفى
ويتابع الزندحي شهادته قائلا: “فى اليوم التالي ذهبت إلى ميدان رابعة بصحبة بعض الأصدقاء لإحضار جثمان إسلام، ودخلنا بصعوبة شديدة بسبب أكمنة الشرطة والسيارات المحترقة، ووجدنا مسجد ومستشفى رابعة محترقين، فتوجهنا إلى مسجد الايمان بمكرم عبيد، حيث قام الشباب بنقل بعض الجثث قبل حرقها، وهناك وجدت جثمان ابنى مسجى بأحد أركان المسجد”.
ويقول: “انتظرنا من الساعة الثامنة صباحا حتى الواحدة ظهرا؛ قدوم وفد من نقابة الأطباء لتسلم شهادة الوفاة دون جدوى، وعلمنا أن كل من توجه إلى مشرحة زينهم أجبروه على استلام شهادة وفاة بانتحار ابنه، ما اضطرني لدفنه بدون شهادة وفاة، ثم قمت بعمل محضر بوفاة ابني في قسم الشرطة”.
عربي 21