في الفكر النسبي والمطلق

في #الفكر_النسبي و #المطلق
مقال : 29 / 9 / 2025

بقلم : د. #هاشم_غرايبه .
كثيرا ما يتوقف الجدال بين المؤمن والملحد عندما يطلب الأخير جوابا على السؤال الأزلي: إذا كان الله خالق كل شيء فمن خلقه؟، واذا لم يكن قبله من شيء، فكيف يمكن أن يخلق ذاته؟.
سبب الوصول الى حائط مسدود، أن طبيعة هذا الموضوع فلسفية وليست علمية بحثية لذا فهي تعتمد على عناصر ثلاثة: العقل والتفكير والمنطق.
العقل يمثل الأداة، والتفكير هو المدى، والمنطق هو الحَكَم.
لم يتفق الفلاسفة على تعريف محدد للعقل، لكنه في جوهره ببساطة إدراك للأشياء بحقائقها، وهذا الجوهر ليس مركبا من قوة قابلة للفساد، وإنما هو مجرد عن المادة في ذاته، وهو قوة النفس التي بها يحصل تصور المعاني وتأليف القضايا والأقيسة .
إذاً هو أداة تقييم محكومة بمدخلاتها المعرفية والإدراكية، أي أن مرجعيته هي الصور المختزنة به، بمعنى أنه لا يمكن ان يتقبل معلومة إلا إن كانت لها علامة مرجعية لديه هي صورة أو صوت أو رائحة أو طعم أو ملمس.
وعليه فهو أداة محكوم أداؤها بحجم ما هو مختزن فيها في الذاكرة، وبحجم االعلامات المرجعية التي يمكن أن يدرك بها أية معلومة جديدة، لذا فهي نسبية ولا يمكن أن تصل الى المطلق بسبب العمر الزمني المحدود للإنسان فينتهي عمل العقل بانتهاء حياة الشخص فلا يمكن استنساخه أونقله الى شخص آخر.
يمثل التفكير المدى المتاح للعقل وهو مفتوح الأفق رحب غير مقيد لانطلاق العقل بما يعنى أنه يمثل المطلق.
أما المنطق فهو ما يحكم على صحة المعلومة المدخلة الى العقل (معقوليتها)، وذلك ضمن معايير ينشئها العقل ذاته، فيحاكم المعلومة ضمنها وفي دائرة فهمه، لكي يتقبل إدخالها الى مخزونه أو رفضها (غير معقولة).
إذا تصورنا العقل على أنه حصان جامح ينطلق بك في الفيافي الواسعة (التفكير)، والتي كلما اعتقدت أنك وصلت خط الأفق الذي كنت تعتقد أنه نهاية المطاف (النسبي)، تجد أن الآفاق تتولد واحدا بعد الآخر، بعد أن يتعب حصانك وتشعر أن ما هو أمامك لا نهائي (المطلق) ولن تتمكن من اكتشاف إلا القليل، تتوقف فتتخلى عن فكرة الإكتشاف المادي المستحيلة، فتلجأ الى التأمل كفكرة بديلة، معتمدا مقارنة ما قطعته من مدى (المعرفة) بما هو أمامك (الغيب) مما لم تقطعه لتستدل به عليه.
هنا نصل الى المنهج العقلي السليم الذي يُمكّن الإنسان من الوصول الى الأجوبة، وهي منهج الفطرة البشرية في التأمل في الموجودات ليستدل على ما هو خارج مدركاته الحسية المحدودة، منهاج ابراهيم [الأنعام:74 – 79]، ثم انتقال الإنسان (ابراهيم) بعد أن تكونت لديه قناعات عليها دليل منطقي الى مرحلة النقاش بالمحاججة [البقرة:258].
المعرفة البشرية لم تكشف للإنسان الا أجزاء بسيطة من الكون، لكنه عرف أكثر بالإستدلال المنطقي، وهو أن هذا الكون هو مادة وجودية محكوم بنظام موحد ومسارات محددة، وبنسق متكامل في جميع أجزائه، لكنه يبقى مادة قابلة للزوال، موجدها ومزيلها قوة هي أعظم مما يمكننا تصوره.
أما ما بعد الكون فلا جواب لأن العقل يتوقف هنا، فهذه منطقة لا يستطيع الحصان الجري فيها لأنه لا توجد ارضية تقف عليها قوائمه، بمعنى أن المدركات الحسية للعقل لا تملك بيانات مرجعية تتيح للعقل التصور.
فليس لنا إذاً الا المعيار الآخر الذي لا يحتاج الى الأدوات الإدراكية العقلية .. وهو التفكير المطلق أي التأمل.
لكنه يحتاج قاعدة معرفية يقينية، وما هو مؤكد بالمطلق ثلاثة أمور:
1 – الإنسان هو سيد الكون لأنه الكائن الوحيد الذي يملك العقل أي الإرادة في الفعل وتركه.
2 – وجود الإنسان مؤقت (كل نفس ذائقة الموت).
3 – القوانين التي تحكم الكون جميعها ثابتة ولا يمكن تغييرها.
بعد الإرتقاء درجات في التأمل نصل الى الإستنتاج:
بما أن عمر الكون محدود يعني أن هنالك ماهو أبقى منه، والذي يحكم مصير الكون ونهايته، وبما أن الانسان هو الكائن الوحيد الذي يملك التصرف فيجب أن يسأل عن أفعاله ويتحمل نتائجها، وهذا يلزمه حياة أخرى يثاب فيها أو يعاقب.
من سينظم كل ذلك .. المنطق يقول أنه الله، لأنه وحده المطلق المحيط بكل شيء، وبما أنه لا يمكن للنسبي أن يحيط بالمطلق، فلا يمكن للعقل البشري الإجابة على السؤال الذي بدأنا به.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى