في الفكر النسبي والمطلق / د . هاشم غرايبة

في الفكر النسبي والمطلق
كثيرا ما يتوقف الجدال بين المؤمن والملحد عندما يطلب الأخير جوابا على السؤال الأزلي : إذا كان الله خالق كل شيء فمن خلقه ، وكيف يمكن أن يخلق ذاته .
لمعرفة سبب الوصول الى حائط مسدود ، علينا أن نحلل الموضوع الى عناصره الأولية ، بما أن طبيعة هذا الموضوع فلسفية وليست علمية بحثية لذا فهي تعتمد على عناصر ثلاثة : العقل والتفكير والمنطق .
العقل يمثل الأداة ، والتفكير المدى ، والمنطق هو الحَكَم .
لم يتفق الفلاسفة على تعريف محدد للعقل ، لكنه في جوهره ببساطة إدراك للأشياء بحقائقها, وهذا الجوهر ليس مركبا من قوة قابلة للفساد, وإنما هو مجرد عن المادة في ذاته وهو قوة النفس التي بها يحصل تصور المعاني,وتأليف القضايا والأقيسة .
إذن هو أداة تقييم محكومة بمدخلاتها المعرفية والإدراكية ، أي أن مرجعيته هي الصور المختزنة به ، بمعنى أنه لا يمكن ان يتقبل معلومة إلا إن كانت لها علامة مرجعية لديه هي صورة أو صوت أو رائحة أو طعم أو ملمس ، إذن هو أداة محكوم أداؤها بحجم ما هو مختزن فيها في الذاكرة ، وبحجم االعلامات المرجعية التي يمكن أن يدرك بها أية معلومة جديدة ، لذا فهي نسبية ولا يمكن أن تصل الى المطلق بسبب العمر الزمني المحدود للإنسان فينتهي عمل العقل بانتهاء حياة الشخص فلا يمكن استنساخه أونقله الى شخص آخر .
يمثل التفكير المدى المتاح للعقل وهو مفتوح الأفق رحب غير مقيد لانطلاق العقل بما يعنى أنه يمثل المطلق .
أما المنطق فهو ما يحكم على صحة المعلومة المدخلة الى العقل ( معقوليتها ) ، وذلك ضمن معايير ينشؤها العقل ذاته فيحاكم المعلومة ضمنها وفي دائرة فهمه لكي يتقبل إدخالها الى مخزونه أو رفضها ( غير معقولة ) .
إذا تصورنا العقل على أنه حصان جامح ينطلق بك في الفيافي الواسعة ( التفكير ) ، والتي كلما اعتقدت أنك وصلت خط الأفق الذي كنت تعتقد أنه نهاية المطاف ( النسبي ) ، تجد أن الآفاق تتولد واحدا بعد الآخر ، بعد أن يتعب حصانك وتشعر أن ما هو أمامك لا نهائي ( المطلق ) ولن تتمكن من اكتشاف إلا القليل ، تتوقف فتتخلى عن فكرة الإكتشاف المستحيلة ، فتلجأ الى التأمل كفكرة بديلة ، وهي مقارنة ما قطعته من مدى ( المعرفة ) بما هو أمامك ( الغيب ) مما لم تقطعه لتستدل به عليه .
هنا نصل الى المنهج العقلي السليم الذي يُمكّن الإنسان من الوصول الى الأجوبة ، وهي منهج الفطرة البشرية في التأمل في الموجودات ليستدل على ما هو خارج مدركاته الحسية المحدودة ، منهاج ابراهيم ( سورة الأنعام الآيات 74 – 79 ) ، ثم انتقال الإنسان ( ابراهيم ) بعد أن تكونت لديه قناعات عليها دليل منطقي الى مرحلة النقاش بالمحاججة ( البقرة : 258 ) .
مع تطور المعرفة البشرية وصل الإنسان الى اكتشاف أجزاء بسيطة من الكون ، والتي دلته على أنه إذا أراد أن يحيط بالكون المنظور له معرفة ( وليس جميعه ) سيحتاج الى استهلاك ملايين الأحصنة ، لكنه عرف وبالمقارنة والإستدلال أن هذا الكون هو مادة وجودية محكوم بنظام موحد وأن له مسارا محددا وجميع أجزائه محكومة بنسق متماثل ، لكنه يبقى مادة قابلة للزوال ..
إذن ماهو وراء الكون ؟ إنه الوجود ، وما هو الوجود وماذا يوجد وراء الوجود .. لا جواب لأن العقل يتوقف هنا ، فهذه منطقة لا يستطيع الحصان الجري فيها لأنه لا توجد ارضية تقف عليها قوائمه أي أن المدركات الحسية للعقل لا تملك بيانات مرجعية تتيح للعقل التصور ..
لذا يتوقف التفكير عند هذه النقطة ، مثلما توقف عند السؤال .. من الذي خلق الخالق ؟
نعود إذاً الى المعيار الآخر الذي لا يحتاج الى الأدوات الإدراكية العقلية .. وهو التفكير المطلق أي التأمل .
حتى تتكون قاعدة للإنطلاق يجب ان نستعين بما تمكن الإنسان من التيقن منه بشكل مؤكد :
1 – الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يملك العقل أي الإرادة في الفعل وتركه .
2 – الإنسان سيد الكون ولا ينافسه في ذلك كائن آخر .
3 – وجود الإنسان مؤقت ( كل نفس ذائقة الموت ) .
4 – القوانين التي تحكم الكون جميعها ثابتة ولا يمكن تغييرها .
بعد الإرتقاء درجات في التأمل نصل الى الإستنتاج :
بما أن عمر الكون محدود يعني أن هنالك ماهو أبقى منه أي الوجود والذي يحكم مصير الكون ونهايته . والوجود المؤقت للإنسان الذي هو سيد الكون هو نسبي إذن المطلق هو الوجود الدائم ( الآخره ) .
من سينظم كل ذلك .. لا يمكن أن لا يكون إلا الله ، وهو وحده المطلق المحيط بكل شيء ، وبما أنه لا يمكن للنسبي أن يحيط بالمطلق فلا يمكن الإجابة على السؤال الذي بدأنا به .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى