في العمق / د. هاشم غرايبه

في العمق

لعل من أهم أسباب تفوق الأوروبيين على العرب تحديداً، اتصافهم بالمرونة وعدم التصلب اتجاه أي موقف، بل لديهم استعداد تام للمراجعة وإعادة الحسابات، ومن ثم تعديل الموقف وفق المستجدات، وما تمليه المتغيرات.
ربما كانت الظروف التاريخية لكل طرف مختلفة، لكن إن أخذنا بكل ظرف على حدة واعتبرناه حالة مستقلة، سنجد أن ما حكم كل حالة كانت القاعدة الآنفة الذكر، دائما وبلا استثناء.
سأضرب مثلا من التاريخ الحديث، في حرب عام 67، تم تدمير الطيران المصري في بداية المعركة، مما دعا الى الإنهيار التام على كل الجبهات، رغم أن سلاح الطيران لم يحسم يوما أية معركة، بل ما يحسمها دائما القوات البرية، يضاف الى ما سبق أنه بالإمكان تحييد دور الطيران بوسيلتين فعالتين، الأولى المقاومات الأرضية سيما وأن الطيران في ذلك الوقت كان يعتمد على التصويب بالإقتراب من الهدف، وليس مثل هذه الأيام على نظام تحديد المواقع بالأقمار الصناعية التي تسمح للطيار بالتصويب الآلي من ارتفاعات شاهقة.
والوسيلة الثانية الإشتباك القريب والتداخل المكاني، ويضاف الى ذلك استغلال نقطة ضعف العدو وهي الخاصرة المدنية الرخوة، فانهياره محتم إن كان القتال ضمن تجمعاته السكانية.
في المقابل فقد دمرت كامل القوة الجوية الروسية قبيل هجوم القوات الألمانية عليها في الحرب العالمية الثانية، وفي اليومين التاليين دُمرت تماما كل مصانع الطائرات والدبابات والذخيرة، إضافة الى الجسور وخطوط النقل والإمداد، كان ذلك كفيلا بهدم الروح المعنوية، لكن القادة الروس لم يستسلموا للأمر، فتغيرت خطتهم فورا الى الإختراقات السريعة لتحييد الطيران، مع أن ميدان القتال كان في الأرض الروسية.
ومثل آخر في حرب تشرين حين فوجئت الطائرات (الإسرائيلية) بصواريخ سام القاتلة، لكنها لم تنكفئ، وفي اليوم الثالث كان قد تم تطوير تكتيكات تضليل الصواريخ الأرضية بنثر أجسام معدنية لتشتيت الصواريخ التي تتبع المعادن، والبالونات الحرارية لتلك التي تتبع الحرارة المنبعثة من محركات الطائرة.
لو حللنا أسباب ذلك، سنجد أنها لا تعود الى تفوق عرقي، ولا الى تميز بالذكاء، فالبشر من مختلف القوميات يُمنحون القدرات العقلية والجسدية على السواء، بل تعود الى أسلوب اختيار الكفاءات وتنمية المهارات.
القاعدة الأساسية عند كل الأمم في استخراج القادة والزعماء، تكون بالتمايز بين المؤهلين لذلك في مقومات الزعامة، أي في اختيار الأكفأ، والانتقاء من بين من يملكون المقومات الفردية الأعلى.
لماذا إذا لا يتم الفرز عربيا وفق ذلك؟.
هنالك أسباب كثيره أهمها:
1 – تاريخيا كان تم اختيار الزعماء بالوراثة، ولما كان يحاط بهالة من التقديس، فهو ملهم لا يخطيء، ولو كان متدني الذكاء، لذا يسعى دائما لأن تكون بطانته ومساعديه أقل منه ذكاء وقدرات عقلية، لم تتغير هذه المعادلة منذ تولي يزيد بن معاوية الحكم وإلى اليوم.
2 – هنالك فارق هائل بين التربية العسكرية الأوروبية التي تهدف لرفع كفاءة العسكري، أما لدى الأنظمة العربية التي تتوجس خيفة من الجيش، فهي في رعب دائم من الإنقلاب العسكري، لذا فالمبدأ الأول الذي يُنشأُ عليه العسكري هو الولاء المطلق للزعيم، والثاني هو الربط والضبط، أي التبعية العمياء، وهي ليست مجرد الطاعة بل الإنقياد، أي استلاب الإرادة الإنسانية وإلغاء التفكير المستقل، ولما كان أغلب القادة السياسيين من العسكر، فلنا ان نتوقع النتائج الوخيمة.
3 – التربية العسكرية لا تهدف لصناعة قادة مرموقين بل موالين، حتى لا يتكون منافس للقائد الأعلى الذي هو الزعيم الخالد، لذا يجري إحالات منتظمة على التقاعد بين كبار الضباط، لإبقاء الأكثر ولاء وليس الأكفأ.
4 – منذ تمكن الأوروبيين من اسقاط الدولة العثمانية، فرضوا على الأقطار العربية إبقاءها ضمن هيمنتهم العسكرية، فالتدريب والتسليح بإشرافهم، وتأهيل الضباط يجب أن يكون في أمريكا، كما فرض أن يكون سن التقاعد العسكري اثني عشر عاما حتى لا تتراكم الخبرات.
بعد كل ما أسلفنا يمكننا فهم أهم الأسباب، وهو أن حسن اختيار القيادة هو وراء التفوق الغربي، وهو سر النجاح في الميادين كافة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى