في العلاقة بين المجتمع والدولة / د. ماجد العبلي

في العلاقة بين المجتمع والدولة
د. ماجد العبلي*
في الوقت الذي تجاوزت فيه الدول المتحضرة مفهوم المواطنة نحو مفهوم أرقى هو مفهوم الأنسنة القائم على احترام الإنسان لكينونته الإنسانية المحضة، والقائمة على التنوع بالضرورة؛ فإن (البشر) في الدول المتخلفة لا يزالون رعايا لحكامهم؛ حيث يُعدُّ مفهوم المواطنة لديهم حلما بعيد المنال، بل قد لا يكون مطروحا أصلا.
وإذا كان مفهوم المواطنة يقوم على التوازن الطوعي بين المواطن والدولة؛ فإن مفهوم الأنسنة يجعل كرامة الإنسان فوق الدولة؛ ما يعني أن الدولة لدى المجتعات المتحضرة تشهد تطورا نوعيا، ربما يُؤسس لتحوّل تاريخي ثوري من شأنه تغيير شكل العالم أجمع نحو اختفاء الدولة ربما. أما مفهوم الرعية فيقوم على خضوع الرعايا لسلطة الحكام.
ووفقا لذلك تختلف العلاقة بين الدولة والمجتمع جوهريا لدى أنواع المجتمعات المعاصرة:
الأول: مجتمع الأنسنة؛ وهو مجتمع متحضر، يعلو فيه الإنسان بكينونته الإنسانية على الدولة؛ حيث الدولة تتفانى في خدمته بحياد تام. وإن العقل الجمعي الحرّ المنفتح لهذا المجتمع المتحضر توصّل بإيجابيته الموضوعية، وإبداعه المعرفي المفتوح، إلى أن منظومة الأخلاق الإنسانية العليا هي الطريق الأمثل للسلام والرفاه الشامل المستدام للذات وللغير: (أي للناس أجمعين)؛ فصارت الإنسانية لديهم هي القيمة العليا التي تعلو على كل قيمة أخرى.
الثاني: مجتمع المواطنة؛ وهو مجتمع متقدم، تقوم فيه العلاقة بين الدولة والمواطن على التوازن الطوعي. وإن العقل الجمعي الحرّ لهذا المجتمع المتقدم توصّل بإيجابيته المتحيزة للذات (الحضارية) وإبداعه المعرفيّ المُوَجّه إلى أن القوة هي الطريق الأمثل للرفاه الشامل للذات دون الغير، فصارت القوة لديهم هي القيمة العليا التي تعلو على كل قيمة أخرى.
الثالث: مجتمع الرعية: وهو مجتمع متخلف، تقوم فيه العلاقة بين الدولة والرعايا على الخضوع الكامل للسلطة. وإن العقل الجمعي التابع المنغلق لهذا المجتمع المتخلف بسلبيته المستسلمة للآخر أو المتماهية معه وجهله المعرفيّ، توصّل إلى أن التماهي مع الآخر هو الطريق الأمثل للسلامة ولتحقيق (التنمية الشاملة!)، فصارت المحاكاة لديهم هي القيمة العليا التي تعلو على كل قيمة أخرى.
وعند التأمل بمفهوم الدولة كمنظومة مؤسسية تعلو على الأشخاص الذين يديرونها؛ فإننا نجد أن الدولة موجودة لدى المجتمعات المتقدمة دون مرحلة النضج، بينما هي ناضجة تماما لدى المجتمعات المتحضرة، في حين أنها غير موجودة لدى مجتمعات الرعية.
وتتميز مجتمعات الرعية بغموض أو غياب مجموعة من المفاهيم على المستوى الثقافي أو المعرفي من جانب، وعلى المستوى العملي أو الحركي من جانب آخر مثل: مفهوم المواطنة، ومفهوم الدولة والدولة المدنية، ومفهوم العلاقة بين الدولة والمواطن، ومفهوم الحرية وحرية التعبير، ومفهوم الديمقراطية، ومفهوم المشاركة، ومفهوم حقوق الإنسان، ومفهوم العدالة والمساواة، ومفهوم المجتمع المدني، ومفهوم مؤسسات المجتمع المدني، ومفهوم سيادة القانون، ومفهوم الكفاءة، ومفهوم الفصل بين السلطات، ومفهوم تداول السلطة، ومفهوم الرقابة على صناع القرار ومحاسبتهم.
ومقابل كل ذلك فإن مجتمعات الرعية مرتع خصب لمجموعة من المفاهيم على المستويين الثقافي المعرفي والعملي مثل: مفهوم الرعية، ومفهوم السلطة، ومفهوم خضوع الرعية للحاكم، ومفهوم الطاعة والتبرير والتأويل والتجميل، ومفهوم الولاء، ومفهوم المكرمات والأعطيات والهبات، ومفهوم الجندية، ومفهوم التمييز، ومفهوم القبيلة أو الطائفة، ومفهوم انتقائية تطبيق القانون، ومفهوم المحسوبية، ومفهوم احتكار السلطات، ومفهوم الوراثة، ومفهوم التمسّح بصناع القرار وتأليههم.
وإن الثورة المعرفية المعولمة وتكنولوجيا الاتصال المذهلة، التي تَعْرضُ لكل فرد على سطح الأرض، بالصوت والصورة، عرضا حيّاً مباشرا على مدار الساعة، مظاهرَ السعادة والرفاه التي تحياها المجتمعات المتحضرة، باتت تفرض على كل فرد في المجتمعات المتخلفة أن ينخرط في عملية مقارنة تلقائية بين نوعية حياته ونوعية حياة الآخر بالتفصيل؛ الأمر الذي سيجعله ساخطا إلى أبعد الحدود. وإذا ما تنامى هذا السخط واتسع وتم تجميعه وتوجيهه؛ فإنه لا بد وأن ينفجر بركانا لن يبقي ولن يذر!
لذا فإن على النخب المستأثرة بالسلطة والثروة أن تستيقظ من سكرتها، وتعمل فوراً على الانسحاب التدريجي السريع من السلطة، وتسليمها لقيادات وطنية منتخبة، لعل ذلك يساهم في الحد من الانفجار المجتمعي الذي باتت معالمه واضحة للعيان.
*دكتوراه علوم سياسية(تخطيط استراتيجي).

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى