في الجدل حول التعليم عن بعد(2)

في الجدل حول التعليم عن بعد(2)
المنافع والمخاطر
أ. د أحمد العجلوني

من أهم المبررات التي تساق لتبرير التوجه نحو ما يسمى بـ “التعليم الإلكتروني” (سواء أكان من خلال التفاعل المباشر أو من خلال منصات التعلم عن بعد) تحقيق هذا النمط للعديد من المنافع الاقتصادية على من ناحية توفير التكاليف التي يتم تحمّلها من قبل المؤسسات التعليمية في حالة التعليم التقليدي، حيث أن اعتماد التعليم عن بعد يوفّر تكاليف إنشاء المؤسسات التعليمية ذات التكاليف المرتفعة من حيث تكلفة إنشاءها وتشغيلها وصيانتها. كما أن التعليم عن بعد باستخدام التواصل الإلكتروني يوفر تكاليف طباعة الكتب وما يلحق بالعملية التعليمية من مستلزمات وأجهزة واثاث. ومن أهم جوانب التوفير في التكلفة انخفاض تكاليف الكادر التعليمي والإداري بنسبة قد تصل إلى 60% أو أكثر. يضاف للمنافع الاقتصادية للتعليم عن بعد ما ذكرته في المقال السابق من فائدته كحل طارئ في حالات الأزمات التي يصعب فيها التعليم بالشكل الطبيعي كما نعيش في أزمة الكورونا الآن.
على الرغم من المنافع الاقتصادية الواضحة لتبني استراتيجية التعليم عن بعد، فإن هذه المنافع تقتصر على الجانب المادي فقط، كما أن المنافع الاقتصادية ستكون قصيرة الأجل وتنزع من العملية التعليمية روحها المتمثلة بالتربية وما ينتج عنها من النمو والتطور الاجتماعي والسلوكي الطبيعي واكتساب القيم للطلاب. وبالتالي، فإنه من الضروري عدم النظر إلى الأمر من زاوية اقتصادية مجردة والتعامل معه من ناحية مادية، ويجب الحذر من تلاعب الحكومة بهذا الموضوع الخطير بحجة ترشيد الانفاق والتخفيف من كلفة التعليم كأحد أوجه الإنفاق الرئيسية في الموازنة العامة! كما أن تناول الموضوع من زاوية النكاية بالمعلمين وإثبات أنه يمكن أن تتم العملية التربوية بدونهم –وإن كنت أشك في ذلك- يدل على قصر نظر شديد وارتهان لأجندات أبعد ما تكون عن المصلحة العامة وخطيئة ترتكب بحق الوطن وأبنائه.
وفيما يتعلق بالمخاطر والسلبيات الناجمة عن تبني نمط التعليم عن بعد بشكل كامل فأهمها فقدان الجانب التربوي (كما أشرت في المقال السابق). يضاف إلى ذلك مخاطر أخرى تتعلق بالأمن الاجتماعي للطالب والأسرة وكذلك أمن البيانات والمعلومات الشخصية، حيث إن الطالب في تواصله لغاية التعلم سيكون منفتحاً على العوالم الخفية التي تحتويها وسائل التواصل الاجتماعي وغيرها، وهي من الجاذبية ما يسترعي انتباه الطالب في مستوى عمري حرج يدفعه الفضول والانطلاق للاستكشاف الذي غالباً ما يحتوي على مخاطر أخلاقية وسلوكية لا حصر لها.
ويتفاقم هذا الخطر في حال وجود الطالب من دون رقيب كما في حالة انشغال الوالدين واضطرارهما للخروج لساعات طويلة وترك الأبناء يتعرضون للعالم الافتراضي لفترة طويلة وبدون رقابة. إضافة إلى أمن المعلومات الخاصة واحتمال استغلالها لأغراض غير أخلاقية أو للابتزاز المادي. يضاف إلى ما سبق اتساع الفجوة الطبقية بين شرائح اجتماعية تملك الأجهزة الحديثة وتستطيع تحمّل تكاليف الاتصال الإلكتروني وشرائح بالكاد تؤمّن قوت يومها.
ثم؛ من يضمن لنا بأن تسويق هذا النمط من التعليم والضغط باتجاه التحول إليه سيكون خالياً من تنفيع شركات الاتصالات والأجهزة الإلكترونية؟! وأن المواطن لن يرتهن في تعليم أبناءه لشركات الاتصالات التي يشكو الكثيرون من سرقاتها الواضحة والمغطاة وممارساتها الاحتكارية؛ مستفيدة من بيئة فساد عامة تحابي الشركات على حساب المواطنين؟
فالحكومات المتعاقبة علّمتنا بأنها غالباً ما تخضع في قراراتها لقوى الضغط الاقتصادي من بنوك وشركات ورجال الأعمال. كما أن كثيراً من اللغط يدور حول عدد من المسؤولين، وتدور حولهم الكثير من الشائعات بسبب تشابك المصالح بين مناصبهم الحكومية ومناصبهم السابقة في الشركات أو تملّكهم لشركات خاصة ذات علاقة بمهامهم الوظيفية؛ هم أو أفراد عائلاتهم.
إن عدم وجود بنية تحتية تقنية وتهيئة مسبقة وإعداد للمتخصصين يزيد من مخاطرة المغامرة بانتهاج سبيل التعلم عن بعد. ويضاف لذلك عدم جهوزية المنظومة القيمية لدى الطلاب وعدم وجود قيادة إدارية حكومية يوثق بها من ناحية مهنية وتفتقر للمصداقية لإدارة عملية التعليم بشكل عام. وهذا ما يجعل التخلي عن التعليم التقليدي والانتقال إلى التعليم عن بعد كمثل الحدأة التي حاولت تقليد صوت الحصان، فلا هي أتقنت صوت الحصان ولا استطاعت أن تغرد بصوتها كما كان.
ونتيجة لما سبق فإن القرارات الخاصة بالتحول إلى التعلم عن بعد خلال أزمة الكورونا مقبولة بشرط أن تكون بديلاً مؤقتاً ينتهي بالعودة إل نظام التعليم الطبيعي المعتاد عندما تزول حالة الطوارئ الناجمة عن الكورونا، ويجب ألا تكون نهجاً دائماً بأي حال من الأحوال.

حفظ الله الأردن؛ حرّاً آمناً مزدهراً

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى