في الارشاد إلى سبيل الرشاد (6 ، 7) / عبد اللطيف مهيوب العسلي

في الارشاد إلى سبيل الرشاد (6 ،الى 7.)
المرتبة الثالثة من مراتب الرشد .
• الرشد بمعنى الخير والنفع، كما في قوله تعالى على لسان الجن: (وَأَنَّا لاَ نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي اْلأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا)(الجن:10)، أي خيرًا.
وﻷن من ضمن المعرفة والتعلم هو معرفة الخير والشر وﻷنه أهم ما يشغل اﻷنسان بعد الغذاء الجسدي هو كيف يعلم ؟ وكيف يدين ؟
فهناك كتاب واحد – فقط – على وجه الأرض يعرف اﻷنسان.وﻻ يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.
ولحسن الحظ فإن سورة الجن قد لخصت لنا هذا.
وحين وصلت بالجن الحيرة وكانوا يبحثون على حلول لمشاكلهم .
طلبوه عن جوع وعن عطش به، بعد طول اشتياق ، فنفر نفيرهم اليه ، وصرفت أبصار بصيرة قلوبهم نحوه .
سمعوا فأنصتوا ، وأنصتوا فوعوا ،
ووعوا ففهموا ،
وفهموا فعشقوا ،
وعشقوا فعانقوا .
فيا طيب ما ذاقوا ويا صفا ما شربوا ويا لذة ما سمعوا حتى استولى على قلوبهم ، ومن سماعه اجتنت نحلتهم ثمرة وصفه فعجبوا إعجاب مغرم متيم فباحت السنتهم بما سطره في قلوبهم ، وبما سقاهم به من رحيق مختومه فقالوا : (( .. إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ ۖ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2) )) الجن .

وﻷن الآيات من أول سورة الجن الى الاية .( من (1 ) الى 14 ).من نفس السورة..
قد أحتوت على الكثير من مباديء التعلم الجيد المبدع ، ولخصت لنا تعليم المتدين كيف يدين .؟
ما يجعلنا نتناول تحليلها ومنا قشتها على النحو الأتي :
ففي حقيقة الأمر قدمت لنا هذه الآيات موقفين للتعلم الأيجابي المبدع الموقف التعليمي الأول كان المتلقي فيه الجن ..وأما الموقف الثاني فهو نقل هذا الموقف لنا وكأنك تشاهده وهو موقف تعليمي آخر ،،
وبالعودة لمناقشة الموقف التعليمي الأول وبتطبيق شروط التعلم الجيد المشتمل على ثلاثة أركان متكلم ومستمع ورسالة نجد أن الركن الأول ( المتكلم ) هو رسول الله .
والمحايد يلزمه التأكد أوﻻ من صدق هذا الوصف ، وأمانة الناقل .
وصدق وصف ( رسول الله) وأمانة الناقل هنا مفروغ منها فمن لديه شك فل يأتي بحديث مثله فالقرآن يختلف عن كلام الخلق ، قد تضمن القرآن برهان بالغ لحسم هذه القضية حتى يقطع كل شك أوجدل يتضح ذلك في قوله تعالى (( وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا وَلَن تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ۖ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24) )) من سورة البقرة.
……
وقد عجزوا عن ذلك فيضطرهم العلم إذا عقد هنالك الى الإقرار بأن القرآن أنزله الذي يعلم السر في السماء والأرض ، وبحتمية تراتب هذه العلاقات مع بعضها البعض يستلزم صدق الرسالة لستحالة اتصاف الخالق بالخداع أو الكذب – تعالى الله – كما يستلزم كذلك كمال مضمونها لكمال منزلها واتصافه بكل صفات الكمال ، أضف إلى ذلك أن أي محايد يمكنه التأكد من صدقها لتطابق ما أخبر عنه القرآن من أحداث الماضي والحاضر مع الواقع بدقة عالية وما تحدث عنه من سنن الكون وتوافقه مع الحقائق العلمية وعدم تصادمه مع العقل ، ووفقا للقاعدة المشهورة ( ما عرف من العلم عن طريق العقل وأيده الواقع فدليله فيه والبرهنة عليه تكلف )

وهذا ما أرشدتنا الآية الأولى من سورة الجن قال تعالى (( قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ ۖ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2) )) .
وهنا قد يتبادر إلى ذهنك سؤال مفاده ” مالذي جعل ( س) من الناس متأكدا أن هذا برهانه صحيح وهو مطابق للواقع أو عكس ذلك ، و ما لذي جعل ( ص ) من الناس يخرج بنتيجة مختلفة عن ( س )، وأحكام العقل ﻻتختلف باختلاف الاشخاص والحقيقة محايدة .؟
في حقيقة الأمر أن طريقة هذا السؤال على هذا النحو يلغي الاجابة المتعارف عليها ( إن أي معلومات جديدة يقوم باستقبالها العقل وبالتالي ان كانت فاسدة أوصحيحة هو الذي يحكم .)

لأن في هذه الاجابة شيء من الغموض
فكم من شخص تبين له ضررا محققا لصحته من طعام معين وهو ﻻ يحتمي ويتناول ما فيه ضرره ، وكم من عالم لا يعمل. بعلمه …؟
وكم من علماء أصدروا أقوال مخالفة لما يؤمنون بها ؟
و في الوقت نفسه يوجد على النقيض من ذلك فيوجد الكثير من العلم النافع الذي يعمل به ،
ما يدفعنا الى القول أن هناك خلل أثر في عمل العقل أو أن حكم العقل غير منضبط ، ..وبالتالي فلا يكون العقل هو الحكم اﻻ في حالة واحدة وهو أن تكون الأفعال غير العقلانية ليست ناتجة من العقل بل من الهوى …، أو وجود أسباب أثرت في عمله
وأعتقد ان هذا يحتاج الى شيء من التفصيل والتأمل ومن الجدير بالذكر منا قشة هذه القاعدة المنسوبة لأحد أهل المعرفة :
( مقدمة كل علم ينتفع به العقل . ،
ومقدمة كل علم ﻻ ينتفع به الجهل .)
باعتبار الترتيب فان العقل سابق للعلم ومقدم عليه وهو موقوف على كل موسوم بالفضل ..ولذلك فإن مقدمة كل علم ينتفع به العقل وشاهداه الرشد والصلاح ( اي العمل الصالح ) .
ومقدمة كل علم ﻻ ينتفع به الجهل وشاهداه السفه والفساد.
ومثل الأول أولو العلم على الحقيقة :

مقالات ذات صلة

ومثل الثاني أولو العلم على المجاز
قال تعالى:
(( مثل الذين حملوا التورات ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا )) من سور ة الجمعة…
فتقديم العقل على العلم هو سبيل أهل الرشد ( إذ الرشد أبرز سمات العقل البشري ، ولتوضيح ذالك أكثر نورد تعريف الرشد بشكل أكثر وضوحا ، وبحسب ما تواردت عليه أقوال أساطين الحكمة والفلسفة ( أنه أبرز سمات العقل البشري بملاحظة أن مناط الرشد وملاكه، هو عمل العقل النقدي الصارم الذي ينتج معرفة إبداعية جديدة، أو ببساطة حسن استخدام العقل فيما يعرض له، وحسن استخدام العقل يتعلق في المقام الأول بقواعد المنهج التي لا تترك مجالاً للشك والتخمين، حين تستبعد الفروض المزيفة، والظنون المحتملة، وتنطلق من الاستقلال في التفكير، وعدم الرضا بالتقليد، ووعي الأخطاء على سبيل التعلم اذ الرشد في نهاية المطاف تعلم واعي ومفيد.)
باعتبار أن العلم يقصد من ورائه المنفعة وليس الضرر …
ومن يفتقد صفة الرشد فان مقدمة علمه هو الغي والجهل فخاتمته ليس المنفعة بل الضرر والهوى ..
فحيث وجد الرشد والعمل الصالح فهناك العقل .
وحيث وجد الغي والفساد فهناك الجهل والسفه .
ومما يجدر ذكره أن مفتاح المعرفة يقوم على التسليم بأربع خطوات لكي يحصل المستمع أو المتعلم على معرفة :

1 – التسليم بوجود حق يبحث فيه.
2 – التسليم بان هذا الحق يوجد بطريقة ما يمكنه التعرف عليه ولديه الاستعداد لمعرفته .
3 – القبول والتسليم بنتيجة ما توصل اليه من معرفة بما يقتضيه البرهان. سلبا او ايجابا.
4 – التزام ما نتج عن معرفته والعمل بها.
ولعلك تتفق معي أن ما سبق قد حلت لنا جزءا من المشكلات التي تعيق التعلم الواعي المبدع ، وليس كلها فليس كافيا للتغلب على كل عوائق مستويات المعرفة، فالعقل يحتاج أيضا الى وسائل وإلى علوم تمكنه من التعرف والحكم على الكثير من القضايا.

ومن هنا يمكن القول انه يمكن تقسيم المعرفة إلى عدد من الأقسام من أهمها العلوم الطبيعية التي تتعامل مع المادة لأنها تمثل غاية المعرفة ,وذلك ان نتائجها متاحة لكل الناس . وبمعنى أصح فالتقسيم هو للمستعلم وليس للعلم ﻷن العلم هو ( توصيف لما يوجد عليه المستعلم ) إذا يمكن القول أن المستعلم ينقسم .إلى ضربين :
الأول الخالق والعلم به إضطرار وصفته ﻻ تنفصل عنه وﻻ تتغير.
الضرب الثاني : الخلق وهو ينقسم الى أقسام:
– الاول علم مشاهد حاضر علوم الطبيعة , والإقرار به بديهية لا ينكره إلا من ختم على قلبه وجعل في أذنيه وقرا وعلى بصره غشاوة وفي هذه يكون أضل من الحيوان ويمثل الإقرار بذلك في القران ما عبر عنه الجن بقولهم (( انا سمعنا قرآنا عجبا (1) يهدي إلى الرشد فامنا به ولن نشرك بربنا أحدا.2 .)) من سورة الجن .
وبالتالي فانهم آمنوا به باعتبار أنهم يدركون هذه القواعد القائمة على الرشد بعقولهم ويستطيعون التأكد منها بمتطابقتها مع الواقع.وأما قولهم في الاية الأخرى (( وانا لما سمعنا الهدى آمنا به ..)) فهو إيمانهم بالقسم الثاني من العلم :
وهو علم ما يتعلق بالمستقبل وهذا العلم منه ما يقوم على بعض ما حدث في الماضي والحاضر ، وما يمكن أن يحدث في المستقبل والتسليم بذلك يحتاج إلى التغلب على الهوى أي النظر إلى سَنَن الكون ,ويمكن التأكد من ذلك باستخدام منهج البحث العلمي المتبع في العلوم الطبيعية عدى العلامات الرقمية في بعض مراحل الدراسة العلمية لصعوبة قياس بعض الظواهر الإنسانية بالأرقام كالحب والكراهية يمكن التعبير عنها بوحدات قياس ,إلى جانب تنزيه الغرض ويكفي لذلك ان تكون فطرته سليمة. طبقا للقاعدة السابقة .
٣/ أما علم ما يحدث في المستقبل ولا علاقة له بما حدث في الماضي فهذا مرتبط بالإيمان بالله فالله وحده الذي يقدر أن يعمل ما يشاء إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكن وبيده ملكوت كل شيء فلا يحصل على هذا العلم إلا مؤمن بل ادارك علمهم بالآخرة .
كذلك حصلنا على إشارة من قوله تعالى (( وإنا لما سمعنا الهدى آمنا به فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا وﻻ رهقا .)) من سورة الجن.

ومن ذلك يلزمنا القول إلى حاجة العقل إلى معرفة صحيحة ترشده وﻻ تفسده وتهديه وﻻ تضله وبالأخص بما ﻻ مقدرة للعقل إدراكه مجردا فمشاهدتك لما حولك وإحساسك بجسمك وحركة ذراعك ، وركوبك السيارة أمر مسلم بوجوده .والاخبار عنه تحصيل حاصل وانكاره لا يلغي معرفتك له .لكن كم يزن جسمك ؟ وكم نسبة الكولسترول فيه ؟ وما نوعية السيارة التي ركبتها وسنة صنعها ؟ يلزمك معلومات صحيحة لتجيب على هذه الأسئلة.

لكن هذا ﻻ يعني أنه بإمكانك إمتلاك المعرفة مالم يكون لديك دافع وحاجة لمعرفة ذلك، ولعلى هذه القاعدة هي المكملة لإجابة السؤال :

** -( ليس بالخبز وحده يعيش الانسان بل وبكل كلمة تكلم بها الرب .)
هذه القاعدة لها دلالة عظيمه اذ تبين لنا احتياج أولي الأفهام إلى المعرفة وأن أحتياجهم للمعرفة ﻻ يقل أهمية عن حاجة الجسد للغذاء …لما ركب الله في مخلوقاته المحل القابل للعلم جعل له غذاء يليق به وتتم به ، ولكل غذاء نتيجة ولكل نتيجة مستقر كذلك جعل للجسم غذاء فمن نطفة الجسم ولدت الصورة الجسدية ومن نطفة العلم ولدت الصورة الروحانية ، ولكل صورة غذائها ولكل غذاء نتيجة ولكل نتيجة مقر ، فالجسدانية مقر نتيجة غذائها الرحم ..
وأما الروحانية فمقر نتيجة غذائها العقل.
وعبر عن الصورتين بقوله تعالى (( هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا (1) إن خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا 2) من سورة الإنسان.
فبروح العلم أفهم الله آدم الخطاب ورد الجواب قال تعالى:(( وعلم آدم الأسماء كلها. .) لما ركب الله فيه المحل القابل للعلم وهو العقل فهم به ما علمه ونفس الشيء يقال عن الجن لما ركب الله فيها المحل القابل للعلم فهمت به ما استمعته من القرآن فقالوا: ((انا سمعنا قرانا عجبا ))
فحاجة النطفة الروحانية للغذاء الروحي الذي هو المعرفة لكل الناس ، و تكرار الذكر ودوام الفكر منة وفضلا لأهل التقوى ﻻ يقل أهمية عن حاجة النطفة الجسدانية الى الغذاء لتكمل به وتبلغ الى حدها المحدود وصورتها التامة.
ومن هنا كانت حواصل عقول أولي الألباب فارغة أفواه قلوبها الى طيب نفائس المعرفة،
وغلائل عطشها ذابلة الى رحيق مختوم شراب المحب..
وإن جوع هذه الحواصل ﻻ يشبع ابدا ..
اﻻ من ثمرة الشجرة الطيبة فإنها تؤتي أكلها كل حين بأذن ربها تستطعم وتطعم وتستسقي وتسقي طعامها يصلح لكل جائع وشرابها يصلح لكل عطشان ، وظلها ممدود في الليل والنهار وأكلها في الصيف والشتاء.
أرضها جسم طائع
وجوها قلب خاشع وفيه تبسق وتورق
وفرعها عقل واسع
وسماؤها رب عظيم
وماؤها قرآن كريم.
وسا قيها نبي كريم.
طعام ربك ألوان من محاسن واحسان
وشراب الرحمن ألوان من مراحم وغفران .
فأي قرار أقر لعين عبد ، وأي سرور أسر لفؤاده، وأي سماع ألذلسمعه، وأي نور أنفذ لبصره ، وأي طيب أذكى لشمه وأي طعام أشهى لذوقه ، وأي كلام أعذب للسانه ، وأي لباس أستر لجسده ،وأي دواء أنفع لدائه من كلام ربه

** ****
ونمسك المقال لنكمل الموضوع في المقال
التالي ( 2 ) :
الركن الثالث فى الموقف التعليمي(المستمع )
…….
المصادر :
1 – القرآن الكريم . . 2 – كتب ومقالات ومحاضرات ولأنني لم أنقل من الكتب نصا سأذكر أهم الكتب التي أستفدت منها في الموضوع او أقتبست.
.1- كتاب التوحيد الأعظم
2 – كتاب الفتوح والكتابان للعارف بالله #الشيخ أحمد ابن علوان رحمه الله.
3 – كتاب التكامل بين العلم والقرآن البرفسور سيف العسلي حفظه الله .
4 – العقل مدخل موجز إصدار عالم المعرفة جون سيرلد وكذلك كتابه العقل واللغة والمجتمع ..
5- محاضرات خاصة بي في نظرية التعلم من أيام دراستي في الجامعة …
6 – من مقالاتي السابقة ( في الارشاد إلى سبيل الرشاد)
7 – خلاصة من خبرتي في مجال التوجيه التربوي
.8 – خلاصة فكر وتأمل في القرآن الكريم مما هدى الله اليه …

اظهر المزيد

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى