في الإرشاد إلى سبيل الرشاد (7) / عبد اللطيف مهيوب العسلي

في الإرشاد إلى سبيل الرشاد (7)
تكملة المرتبة الثالثة من مراتب الرشد :

..(( وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا ۖ فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَىٰ قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ (29) قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَىٰ طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ (30) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَن لَّا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءُ ۚ أُولَٰئِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (32) ))من سورة الأحقاف.
وﻷننا قد بدأنا تحليل ومناقشة الموقف التعليمي للجن من تجربتهم في استماع القرآن الكريم المشتمل على ثلاثة أركان :
( المتكلم ، والرسالة ، والمستمع ) وتناولنا (المتكلم ، والرسالة )
في الموضوع السابق. نتناول اﻵن
الركن الثالث المستمع :
وبتطبيق شروط التعلم الجيد المبدع على المستمع في الموقف التعليمي الأول نجد أن الجن كانوا منصفين وواقعيين وإيجابيين وغير أنا نيين وﻻ مستهترين ، أو معرضين ، بل كانوا باحثين عن الحق ولديهم الدوافع الكافية والمنطقية ما يمكنهم من فهم وتحليل المعلومات ومناقشتها ، ثم التركيب والاستنتاج بأعلى درجة من الدقة ، بدليل أنهم استخدموا كل خبراتهم ومعارفهم السابقة وخرجوا بنتائج مذهلة .
لقد استنطقوا الماضي اعتبارا واعتصروا الحاضر اعتصارا ، واستشرفوا المستقبل أملا .
وكل محايد ومنصف يجد أنهم لم يبنوا ايمانهم إﻻ على وقائع حقيقية ، وقد مكنتهم تجاربهم السابقة في البحث والتدقيق فيما كانوا يستمعون من السماء عن ثمن القرآن وتفوقه وعلو قدره على غيره من المصادر، ولأنهم كان لديهم مشكلات عديدة يبحثون عن حلول لها ، وانه قد سبق لهم التعرف على كثير من الأقوال والمعارف منها ما هو حق ، ومنها ماهو باطل استطاعوا أن يفرقوا بينها بفطرتهم السليمة وعقولهم الراشدة فتطابق ذلك مع ما جاء به القرآن . فقد آمنوا بوجود خالق غني ﻻ يحتاج الى من يساعده من خلقه من جن وانس بل هو قائم بذاته ونفوا ما قاله السفهاء عن الخالق مما ﻻ يليق به أﻻ تسمع إلى قولهم (( وَأَنَّهُ تَعَالَىٰ جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3) وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا (4) )) من سورة الجن. .
ثانيا : أن المتأمل المحايد يجد أن الجن كان لهم من قواعد العلم ما يجعلهم أن يستخدموا أسلوب التحليل للنص القرآني للظاهرة الدينية بصورة شاملة ، ويقارنونها بما كان مطروحا ، ثم يناقشونها مناقشة علمية منصفة ، ويرجحون ما يعرض عليهم من معلومات تحتمل أكثر من مفهوم بأسباب وجيهة ما بجعلهم يرجحون أحد الأحتمالات على الأخر يتبين لك ذلك في اﻷية التالية (( وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن تَقُولَ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (5) ..)) الجن .
وتوضيح ذلك أن أهل الباطل ﻻ يتفقون على باطلهم ، وﻻ على كذبهم في حقبة معينة ، وفي أمة معينة فمن باب أولى لم يحدث في طول الأزمان ومختلف البقاع ، وبين الانس والجن ، فقد اختلفوا حول طبيعة الإله وعلاقته بخلقه آﻻف الأقوال ، وصنعوا آلهة عديدة ﻻ حصر لها ، أما أهل الحق من إنس وجن فقد اتفقوا على حقيقة واحدة وهي وحدانية الله وكمال صفته …منذ آدم الى أن يرث الله الأرض ومن عليها فزادت ثقتهم بما صدره القرآن من هذه المعرفة التي توافق عليها أهل الحق من الجن والانس في كل لاوقات ومختلف الازمان في الوقت الذي استحال فيه اجتماع أهل الباطل على باطلهم وهذا ما ارشدتنا اليه الأية آنفة الذكر (( وأنه تعالى جد ربنا ما اتخذ. ..))
أما في حالة لم يكن لديهم مرجح فانهم يتوقفون وﻻ ينزلقون منزلق الخرافة كما في قوله تعالى ((. وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا (7) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ ۖ فَمَن يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَّصَدًا (9) وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (10) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَٰلِكَ ۖ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (11)
ولقد كانت قضية البعث في حقيقة الأمر أهم المشكلات التي كانت تعترضهم ويبحثون على حل لها من مصدر موثوق وزادت حيرتهم منعهم من استراق السمع فقد حجب عنهم هذا المصدر ، ومع أنه مصدر غير موثوق بدرجة مقبولة إﻻ أن وجوده كان أفضل من عدمه في حال عدم وجود مصدر أوثق منه ؛ ما جعلهم يضعون احتمالين كما في الاية ، ولكن زال هذا اللبس عندهم بعد سماعهم القرآن .
وﻻنهم ممن اتصفوأ بالصلاح الى جانب الرشد فقد وصلوا الى نتائج فائقة للتعلم ما اضطرهم علمهم الى الأذعان والإقرار بل والوجل ، فليس دون الله ملجأ وﻻ منه مهرب إن هم أخلوا بمقتضى ما علموا (. وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن نُّعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَبًا (12) الجن.
ثم استخدموا اسلوب التركيب ليخلصوا من التحليل والمناقشة إلى إبراز قيمة ما وصلوا اليه..
فلجؤا الى الله فآمنوا بما أنزل على محمد وهو الحق من ربهم فأمنهم وأصلح بالهم(( وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَىٰ آمَنَّا بِهِ ۖ فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا (13) الجن .
ثم عملوا بمقتضى إيمانهم وأنابوا اليه وأسلموا له وهذا هو التدين الراشد .
وقد ذكر الإسلام في الآية التالية مرتين فالثانية ( فمن أسلم ) ليست تكرار للأولى قال تعالى :
::
(( وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ ۖ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَٰئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14) الجن ..

بل المقصود به هو التسليم الكلي اليقيني ، ويتضح ذلك أكثر في الآية الاتية من سورة الزمر ……
((.. ۞ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ (54)
فمنادتهم بنداء العبودية المضافة إليه، ثم مطالبتهم بأن يسلموا له بعد مطالبتهم بالإنابة هو تسليم كلي وليس الإسلام الإبتدائي .
خلاصة
ومن هنا نتبين الأتي :

1- أن أي علم فرغ من العقل والرشد فهو أخو الجهل ، وعدمه خير من وجوده ، وأي علم ﻻ يعمل به فهو عبئ على حامله كمثل الحمار تحمل أسفارا .
2- العلم الذي يتقدمه العقل والرشد من علوم الطبيعة نافع لكل من تعلم به ولغيره ، ويبنى عليه لمعرفة العلوم الإنسانية .
3 -العلم بالتعليم ، وثمرته العمل به .
4- فكما أنه يوجد تعلم راشد نافع وتعلم غير راشد، وﻻ نافع كذلك نفس الشيء يوجد تدين راشد وتدين غير راشد ، وﻻنافع وهذا . وكما لخصت لنا اﻵيات السابقات من سورة تعليم المتعلم كيف يعلم ؟ فقد ركزت اﻵية الكريمة من نفس السورة
في قوله تعالى (( وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ ۖ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَٰئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14) )) من سورة الجن.
على تعليم المتدين كيف يدين . ؟
وفي اﻵية التالية من سورة فاطر مزيد من الإيضاح كما تلاحظ فقد قسم الله المتدينين من المسلمين الى ثلاثة : ظالم لنفسه، ومقتصد ، وسابق بالخيرات.
قال تعالى :
(( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ۖ فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) فاطر
وما أحسن ما أورده صاحب كتاب التوحيد الاعظم في هذا المعنى :
( أن التوحيد قربة لتجلي الاسلام فيه وإذ لم يفد إلى الاسلام فهو أخو اشرك .
وأن الإسلام قربة لتجلي الإيمان فيه ، و إذآ لم يفد إلى الإيمان فهو أخو الكفر.
وأن الإيمان قربة لتجلي اليقين فيه ، وإذا لم يفد إلى اليقين فهو أخو النفاق .)

نستنتج مما سبق أن هذه المرتبة من مرتب الرشد قد ركزت على أمرين اثنين :
الأول : التعلم الراشد وأصبح في عالم اليوم تخصص يدرس في الجامعات بما يعرف بالدراسة الراشدة في مجال الاقتصاد وغيرها وهي من أهم ثمرة الحكمة التي علمها لقمان الحكيم ابنه (( يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله إن الله لطيف خبير )) 16 لقمان
الثاني: التدين الراشد
… وفي اﻷخير ﻻ أخفي عليك سرا فقد طرحت على نفسي السؤال الأتي :
هل يوجد كتاب آخر غير القرآن الكريم ممكن أن يعلم الجن والإنس كيف يعلمون .؟، ويعلمهم كيف يدينون .؟
الجواب على ذلك وبكل وضوح ولا حتى مائة الكتب يمكن أن تفي بالموضوع، كتاب واحد فقط على وجه الأرض علم الجن والأنس هو القادر أن يعلم المتعلم كيف يعلم ، والمتدين كيف يدين اﻵن .؟
القرآن الكريم تأويل كل كلام ، ومنتهى كل علم وتأويل القرآن هو الله ، والله سبحانه وتعالى منتهى كل معلوم ، وهو حي يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده يعلمهم ، ويفتح قلوبهم لمعرفة كتابه ، فإننا إن أشكل علينا شيئا من كلام المخلوقين نتمنى أن يكونوا معنى لنستنطقهم ونعرف ما أشكل علينا ، والله سبحانه وتعالى معنا حيثما كنا ، ولعلنا قد خرجنا من هذه التجربة في استماع الجن للقرآن بفائدة عظيمة ، وكل من سيلقي سمعه للايات سيكتشف ذلك بنفسه.
فإن كنت تروم منزلتهم وتتوق الى معالي مرتبتهم ..أﻻ أدلك على ذلك لتصل إلى ما هنالك .
استمع لما يوحى – وعزة من على العرش استوى – ما ينطق عن الهوى ان هو اﻻ وحي يوحى علمه شديد القوى ..اسمع سماع لبيب فاهم ﻻ سماع متكبر آثم لم تسمع الجن والبشر قبله وﻻ بعده مثله فيعجز لسان الفصيح ان يحصي فضله .
(( إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد .))
(( فلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ (78) لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (80) )) من سورة الواقعة.

وما يعقلها إلا العالمون .
… .ربنا لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم .
مع جزيل الشكر والامتنان لسواليف
…….يتبع المرتبة الرابعة من مراتب الرشد .
المصادر :
1 – القرآن الكريم . . 2 – كتب ومقالات ومحاضرات ولأنني لم أنقل من الكتب نصا سأذكر أهم الكتب التي أستفدت منها في الموضوع او أقتبست.
.1- كتاب التوحيد الأعظم
2 – كتاب الفتوح والكتابان للعارف بالله #الشيخ أحمد ابن علوان رحمه الله.
3 – كتاب التكامل بين العلم والقرآن البرفسور سيف العسلي حفظه الله .
4 – العقل مدخل موجز إصدار عالم المعرفة جون سيرلد وكذلك كتابه اللغة لنفس..
5- محاضرات خاصة بي في نظرية التعلم من أيام دراستي في الجامعة …
6 – من مقالاتي السابقة ( في الارشاد إلى سبيل الرشاد)
7 – خلاصة من خبرتي في مجال التوجيه التربوي
.8 – خلاصة فكر وتأمل في القرآن الكريم مما هدى الله اليه …

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى