
الألوهية والربوبية
إذا تجاوزنا الفكرة الساذجة التي تقول أن الكون بكائناته الجمادية والحية وجدت جميعها بالصدفة وبلا موجد، فإن الوجود بما نراه من تنظيم دقيق وتناغم وانسجام بين مكوناته جميعا، يدعونا للإستنتاج بأنه خاضع لسيطرة فائقة القدرة، ومن خارجه، وغير خاضعة حتما لقوانينه التي تضبط حركته الدائبة.
من هنا سعى الإنسان منذ وُجِد (كونه الكائن العاقل الوحيد المؤكد لحد الآن)، الى البحث المعرفي عن هذه القوة المسيطرة (الإله)، وتلك الضابطة المزودة للكائنات بأسباب وجودها ومتطلبات ديمومة حياتها (الرب).
سريعا اكتشف سخافة الفكرة بتعدد الآلهة والأرباب، وإذاً لكان لكل ظاهرة طبيعية قانون مختلف قد يتعارض مع غيرها، ولكل خالق طابع مختلف لا يسري عليه ما يسري على مخلوقات غيره، “إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَٰهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ”[المؤمنون:91]، لذا فلا يمكن أن يكون هنالك إلا خالق واحد وأوجد خلقه لحكمة أرادها، لذا فهو الإله المستحق للتعظيم والتبجيل عبادة وطاعة، وهو ذاته الرب المتصرف بشؤون خلقه والمالك لزمام أمورهم.
لم يكن بحث البشر المضني عن ذلك ترفا، بل هو احتياج أساسي لأنه المدخل الوحيد لمعرفة علة وجودهم ومآله، وكذلك الموجودات الأخرى من جماد وكائنات حية، والتي وجدها جميعا مسخرة لمنفعته وتحقيق مصالحه، فليس مقنعا له وهو يجد نفسه مميزا على باقي المخلوقات بالعقل والحكمة والنطق وحرية التصرف، أنه وجد ليعيش ويموت من غير هدف ولا رسالة، لذا كان البحث عن الإله من أجل معرفته، وبالتالي التوصل الى الإجابات المقتعة.
بهذا الإستنتاج يصل العقل البشري الى حدوده القصوى المتاحة، فالتيقن من حتمية وجود الخالق الإله الرب بالمنطق، والذي هو علم اليقين، غير كاف لإقناع العقل إلا بالمحسوس الذي هو عين اليقين، ولما كان ذلك يعني رؤية الإله، وهو أمر غير متاح لحكمة أرادها الخالق، وهي أن يؤمن به البشر في حياتهم الأولى بعقولهم، امتحانا لهم وتمحيصا، لفرز من يستحق السعادة في دار الخلود.
لكن الإله رؤوف رحيم، ويعلم أنه امتحان صعب لا يجتازه إلا أولي الألباب، لذلك سهله عليهم، وأرسل الإجابات الصحيحة من خلال رسالات متتالية للبشر، وأرفقها بتشريعات بيّن فيها ما ينفعهم وما يضرهم، وأجمل كل ذلك في كتاب أنزله على خاتم الأنبياء، فمن احتكم الى عقله، فرأى أن ما جاء به المرسلون يطابق المنطق الذي توصل إليه بعقله، فصدق بالدين واتبعه فقد فاز، أما من كذب به واتبع هواه بعدما رأى الآيات والبراهين، فلم يبق له على الله حجة، ولا نصيب في الطيبات الموعودة، مثلما أن من ناصب المؤمنين العداء وألحق بهم الأذى، فلا شك أنه اختار غضب الله، فلا جرم أن يكون العذاب المهين مصيره.
بناء على ذلك نفهم الحكمة الإلهية من خلق البشر، في أنه خلقهم ليسعدهم، والعدالة الإلهية بأن خلقهم على نمط واحد، فلم يجعل لبعضهم عينين وآخرين أربعة عيون، ولا ميز بشراً بقوة بدنية فائقة وآخرين ضعافا، بل متعهم بكل الجوارح والنعم والخيرات في الحياة الدنيا، جميعهم على السواء، المؤمن منهم والكافر، لكي يحقق تكافؤ الفرص، ويعرّفهم بشيء مما ينتظر الصالحين منهم في الحياة الثانية.
هكذا هو الإله، حي لا يموت بل يَخلُق ويميت، ولا يُخلَق فيُستبدل، لكي يبقى الأول والآخر أبدا.
وواحدا أحدا فلا ينازعه أحد فتفسد المخلوقات.
وفرداً صمداً، وقادرا مهيمنا على كل شيء فلا يحتاج زوجة تعينه، وباقيا أبدا فلا يحتاج لإبن يخلفه فيخلد ذكره.
وهكذا يكون الرب، فلأنه مالك كل شيء، فإنعامه لا يمكن حصره وعطاؤه غير محدود.
وفوق ذلك كله عدالة في التوزيع وعدل في القضاء، فلا يحرم من فضله في الدنيا عاصيا ولا يحابي طائعا.
” فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ”؟.