(منشور سابق بده فنجان قهوة )
لقد سبقنا النت وشبكاتها في تناقل #الأخبار , وتثاقلت خطايانا بنميمة أسميناها تاريخا . فلم نذكر محاسن موتانا , ولم نأخذ من سيرة الراحلين الا اليسير من العبر .
تاريخنا بقبح #الحطيئة وقدسيّة الشرف عند الغانيات , وقد أضفنا عليه أكاذيبنا , كما الماجي على طبخ الموظفات , فكان شعارنا منذ الأزل : ما بتنام نوريّه وتحت راسها خبر .
حافلاتنا كانت مهد الأخبار لروادها , وشاطئ العشاق لمن يبحثون عن توأم الروح بين الطالبات . فيها ذكريات من رحلوا , وفرح الخريجين بشهادة النجاح وقد غصّ ديوان الخدمة المدنية بأسمائهم ورجائهم .
فيها أخبار الولائم بين عرس ومولد وطهور , وفي ثناياها تسمع أخبار #المرضى , بين شفاء لمن نجا , ولحد لمن خذله ابقراط , أو كان سقمه عضالا لا يبالي بوصفة #طبيب ولا ترياق .
نعم حافلاتنا #فيس_بوك بلا حزم ولا فواتير , أحنّ اليها ولست ممن يعيب روّادها , فقد كبرنا فيها , ورسمنا على مقاعدها الف سهم على قلوب من أحببنا , هجرناها بذريعة الوقت , فأصبحنا خلف المقود في سياراتنا نتوسل الوكيل لخبر هنا أو حادثة هناك , بعد دهر من الأخبار الطازجة بلا جزيرة ولا مراسلين , ودون أن نضرب لها باب موعد , كما قال ( مقصوف العمر ) طرفة بن العبد , فقد مات في ريعان شبابه .
كان والدي يوما في الحافلة ما بين اربد وقريتنا قبل عشرين عاما , وكان من بين الركاب عجوز وقد أدركت مكانا في ذيل الحافلة من المقاعد , ملامحها كانت غريبة عن نساء قريتنا , وقد بدت للسائلين كواحدة من أصحاب الكهف في سيرة الأولين .
مضت الحافلة في سبيلها دون أن تسأل تلك العجوز كم لبثنا . وما هي الا عشر دقائق حتى طرقت نافذة الحافلة حتى انطعج ( الشلن ) بين أصابعها . مشت والهرم يكبّل قدميها كمن يسوقونه نحو المقصلة , وكما ربّات البيوت يمشين نحو الجلي في يوم زمهرير من نشرات رؤيا ومحمد الشاكر . تناولت كيسا من تجويف صدرها يحوي دنانيرا وقد بدت خيوط العنكبوت على أطرافها , دفعت أجرتها وقد استعادت باقي الدينار بعد فزعة الجميع كالحمام الزاجل في ايصالها .
سألها والدي : وين رايحه يا حجه ؟ فأجابت : بعيد عنك في عزا عند قرايبنا , ورايحه أقوم بالواجب .
عندها قال والدي : أي والله ما عليكي عتب , وين أولادك ؟ وكيف جايّه لحالك ؟؟؟!!! بعدين والله يالله يمداهم يسدّوكي يا حجه .
غادرت دون أن تجيب عن سؤال أبي , وفي قلبها غصّة العذر المجهول , ليمتلئ الباص بعدها بعتاب والدي , كما الصخب في أفراح الرعاع .
ربما عاشت أكثر من والدي , وقد كانت أكثر حظا من فتاة الفيزون الأحمر وقد صعدت في حافلة قريتنا , فتأججت النظرات في المقل , كما البوشار في جوف الطناجر .
فتح أحدهم نافذة قرب مقعده , فصاح به آخر : ياخي سكرّ الشباك , في ناس مش لابسه كثير , بلاش تبرد .
لم أرى استياء من تلك الحسناء على ما سمعت , فقد كانت تعرف كثيرا عن ثورة الغرائز في حضرة الفيزون , لكنّ أحدا لم يعاتب ذلك المراهق على ما قال , ففرحته لم تدم وقد نزلت في منتصف الطريق , تاركة خلفها ألف سؤال , فلم نعرف لها اسما ولا عنوان .
كان هذا عام 1984 وكنت يومها في الحافلة كما المسافر زادٌه الخيال , كما غنى عبد الوهاب , وما أن غادرت صاحبة الفيزون مقعدها , حتى قرأت أغنية عبد الحليم حافظ ( ظلموه ) في عيون أحدهم وقد نظر الى زوجته .
لا أدري ماذا سيحدث في قادم الأيام , فربما يأتينا زمان يقول فيه شاب لخطيبته : اوعديني حبيبتي تتستّري وتلبسي فيزون . وإنّ غدا لناظره لقريب .
دمتم بخير