فلسطين في مناهجنا
شروق جعفر طومار
لم تكن سوى أيام قليلة قد مرت على اشتعال الانتفاضة الفلسطينية الثانية حين بدأتُ السنة الدراسية الأولى لي في الجامعة الأردنية. كانت الأجواء الطلابية مشحونة بروح وطنية متقدة، فعاليات تضامنية كثيرة، ملصقات منتشرة على الجدران وسيقان الأشجار، والأغنيات الثورية تصدح من مذياع الكفتيريات وتختلط ببعضها في شوارع الجامعة الطويلة.
موجة الحماسة العالية كانت كفيلة بدمج كثير من الطلبة في أجوائها حتى أولئلك الذين لم يعرفوا شيئا عن القضية الفلسطينية وتاريخها. لكن كثيرا من هؤلاء كانوا يقفون بين الجموع أحيانا كمن وجد نفسه فجأة في بقعة من الأرض لا يعرفها ولا يفهم لغة أهلها وليس بإمكانه مغادرتها إذ لا يدري أي الاتجاهات يمكن أن يخرجه منها.
يهتف أحدهم» لدير ياسين»، فيسأل شاب من الواقفين بين الحشود شابا آخر «شو هاي دير ياسين» فيهز صاحبه اكتافه بإيماءة تقول «علمي علمك» .. نمر بجوار ملصق كتب عليه «لا للتطبيع» فتميل إحدى الزميلات عليّ برأسها وتهمس «شو يعني تطبيع»؟
كنت أشعر بدهشة لهذه الاسئلة وغيرها التي تظهر درجة جهل جيل كامل بالقضية الفلسطينية وبعده الشديد عن ما يتعلق بها من معرفة وثقافة وحتى مفردات. ترى من المسؤول عن هذا الجهل؟ كنت أتساءل؟
عاصر أبناء ذلك الجيل في أول سنين عمرهم الانتفاضة الأولى، لم تكن الذاكرة الواعية لدى معظمهم قد تشكلت بعد، انتهت الانتفاضة وشح الحديث عن فلسطين وعن النضال وعن جرائم الاحتلال والحق المغتصب، ولم يجد أولئلك في كتبهم المدرسية الشيء الكثير عن القضية الفلسطينية بالدرجة التي تبقيهم على ارتباط بها.
كان اندلاع الانتفاضة الثانية فرصة لعودة التصاق ذلك الجيل بالقضية وامتداد ذلك الارتباط إلى الجيل الذي يليه، في ذلك الوقت صار هناك فضائيات وشبكات انترنت وطرق حديثة للتواصل، وكان من الممكن استثمار كل ذلك في التأسيس لوعي جديد لدى الجيل بالقضية.
انتهت الانتفاضة الثانية، وانقطع مرة أخرى الحديث عن القضية وفقد الجيل مجددا ذاكرته وارتباطه بها، فالفضائيات عادت لبث برامجها المعتادة، وصار الخبر المتعلق بالشأن الفلسطيني في ذيل نشرات الأخبار بل إنه لم يعد يجد فيها مكانا في بعض الأحيان بعد انطلاق ما أطلق عليه «الربيع العربي»، واستمر تقليص المساحات التي تتحدث عن القضية في الكتب المدرسية أكثر فأكثر.
لم يعد جيل اليوم يقرأ عن فلسطين في كتبه إلا بدرس خجول أو اثنين، فصول كاملة من مواد التاريخ والتربية الوطنية عن القضية الفلسطينية والصراع العربي الاسرائيلي أسقطت من المناهج.
الأحداث في صراع الشعب الفلسطيني مع الاحتلال لم تتوقف، ومعاناته زادت وتراكمت، وغطرسة الاحتلال تمادت حتى امتدت إلى حدود لم نكن نتخليلها، وبدلا من أن تضاف فصول ومساقات تغطي جوانب من هذا الصراع َ إلى منهاجنا، تقلصت الدروس المتعلقة بالقضية حتى صارت سطورا في درس هنا أو نشيد هناك إن وجد.
النكبات تتوالى علينا تباعا، وممارسات الاحتلال البشعة يمر ذكرها في نشرات الأخبار كأي خبر عابر آخر، والحديث فيها صار شأنا مقتصرا على المختصيين والساسة، فيما لم يعد كثيرون يدركون الفرق بين الأراضي المحتلة عام 1948 وتلك المحتلة عام 1967!
لقد أفرغت مناهجنا من أي محتوى صلب من شأنه أن يخلق التصاقا بين الجيل والقضية، وجرف وعي الجيل بقضيته حتى صارت فلسطين بالنسبة إليه أغنية يتمايل على ألحالنها في برامج المسابقات الغنائية الشهيرة لا أكثر، فصارت الطريق ممهدة تماما أمام الاحتلال لتنفيذ أي مخطط بلا أي عائق!