#فصام #الشخصية #العربية(٢)
وليد عبد الحي
إذا كان ماركس لا يفهم الفرد الا في بيئته الطبقية ،وابن خلدون لا يراه خارج عصبيته القبلية، والمنظومات الدينية لا ترى له معنى الا من خلال التزامه بقواعدها، فإن فرويد حشره في ذاته،وقبله أسس أبيقور لتحرره من كل ما سبق، وهكذا انشغل الفكر الانساني في تحديد ” من له الغَلَبة”؟ الفرد ام المجتمع.
ويبدو لي ان مدرسة المصالحة الذهنية كأحد فسائل المدرسة المنطقية لا تصلح في هذا السياق، فالقول بمراعاة الفرد لقواعد المجتمع مقابل احترام المجتمع لخصوصيات الفرد ليست أكثر من ثمرة من ثمرات المصالحات الذهنية، فأغلب الابطال حازوا هذه المرتبة – حقا او باطلا- هم الذين تمردوا على المجتمع، وبالمقابل لا احد ينكر ان هناك ما يسمى ” العقل الجمعي ” أو ” الروح العامة” بتعبيرات هيجل.
المسار التاريخي في زعمي – واستنادا لكل علماء الانثربولوجيا تقريبا- يسير نحو الانتقال عبر المراحل التاريخية من الفرد الى النظم الاجتماعية الفرعية التي تتسع تدريجيا وتترابط بشكل يفتح المجال في كل مرة لمزيد من التوسع فتتهدم الجدران الفاصلة بين النظم الفرعية ليُبنى عوضا عنها جدرانا جديدة لكنها حول مساحات أوسع ، وهو ما يتضح في الانتقال من الفرد للأسرة للعشيرة للقبلية للشعب للأمة للنظم الدولية وها نحن نقف على اعتاب النظم العالمية وسارية العولمة تلوح في الافق البعيد.
وفي زعمي الآخر- ويشاركني في هذا الزعم جمع غفير من الباحثين- ان الترابط الاقتصادي القائم على التصنيع بشكل خاص من ناحية والترابط التكنولوجي من ناحية ثانية هما العاملان الحاسمان في هذا الانتقال شريطة ان نفهم العاملين فهما يراعي مراحل الانتقال من ناحية ويتجنب النظرة الميكانيكية وتصيد الحالات النافرة في مختلف النماذج من ناحية اخرى، وهو ما يترتب عليه نتيجة محددة هي ان الانتقال من المستوى الأدنى( في النظم الفرعية) الى المستوى الاعلى نحو العولمة مرتبط بمدى وفرة هذين العاملين، فهُما – في زعمي – آليات تفكيك النظم الاجتماعية والانتقال بها من مستوى أضيق لمستوى اوسع يتناسب مع عمق الترابط في العاملين.
ما صلة ذلك بالعرب؟
أزعم للمرة الثالثة ان العرب هم الاكثر انتاجا أدبيا في العالم في مجال التنظير لوحدتهم ” كأمة” ، لكنهم ورغم توفر عوامل كثيرة لتحقيق ذلك هم الاقل نجاحا في العالم في هذا الصدد ، بل إن رصيد انجازهم يقع في الخانة السالبة…وهو ما يتضح في قوة الجذب للنزعة الفردية عند العربي، فتراه أقرب دائما لولائه الأدنى( فهو مع اسرته ضد عشيرته، ومع العشيرة ضد القبيلة، ومع القبيلة ضد المواطنة، ومع المواطنة المحلية ضد القومية ومع قوميته في مواجهة دينه إذا كان الطرف الآخر ليس عربيا( ولاحظ الانقسام السني الشيعي في المجتمع العراقي كحالة توضح ما اقصده)، وهو ما يعني ان الشخصية العربية تعاني انفصاما طرفه الاول الولاء الأدنى والطرف الثاني الولاء الأعلى وتتأرجح بين الطرفين.
ويقال ان العرب ليسوا وحدهم في تغليب الولاء الأدنى على الواء الأعلى، وهو امر صحيح إذا تم أخذه باقتطاع فترات تاريخية منتقاة قصدا من حياة الشعوب الآخرى، اما إذا تم بناء التحليل على الاتجاهات التاريخية الاعظم، فإن المسارات الخطية او غير الخطية نحو الولاءات الاوسع في اغلب مناطق العالم تسير بتسارع يفوق كثيرا زحف البطن السائد في العالم العربي، واعتقد ان السبب الرئيسي هو ضعف الترابط الاقتصادي والتجاري الكبير جدا بين العرب وضعف مقابل في “العقل التكنولوجي” العربي وترابطه، وهو ما يجعل العربي مشدودأ نحو الماضي (في الموقف من الزمن) ونحو الولاءات الفرعية( الوطنية او القبلية او الطائفية…الخ) ، ويكفي ان تنظر لدرجة تعاطف العرب مع قضايا الآخرين ، فمن النادر ان تجد مظاهرة عربية دعما لمصيبة تحل في مجتمع غير عربي، وهو ما يجعل “الدفق” في حسه الانساني يقطر قطرا ولا يسيل سيلا.
لقد دلت أغلب الدراسات على ان موجات التكتلات الاقليمية والمنظمات الاقليمية الحكومية وغير الحكومية هي استجابة للترابط الصناعي والتقني الذي فكك الروابط القديمة وبنى بدلا منها روابط جديدة..وحتى الظواهر التكاملية التي يصيبها التفكك او بعض التفكك تعود لتعميق الروابط السابقة الذكر بهدف توسيع دائرة الترابط ، لأن احلال الروابط العضوية(التجارة والاقتصاد والتكنولوجيا..الخ) محل الروابط الآلية( اللغة والدين والوجدان التاريخي..الخ) يحول قواعد العلاقة من العلاقة الصفرية ( ما يكسبه طرف يخسره الطرف الآخر) الى علاقة غير صفرية تقوم على القبول بالمصالح المتناقضة والمشتركة كأمر طبيعي ، مع بناء تخطيط استراتيجي يقوم على توسيع دائرة المصالح المشتركة ليصبح وزنها- وبشكل تدرجي- اكبر من المصالح المتناقضة مما يتيح المجال لدورة توسيع للعلاقة من جديد ..وهكذا تصبح المصالح المشتركة هي آلية لجم المصالح المتناقضة التي تتغذى عليها الولاءات الأدنى.
أزعم أخيرا أن العرب سيمكثون طويلا بين شقي الرحى ، ولن يفلتوا من اسنانها الا بعد ان يتجاوزا نسب الترابط الاقتصادي ( حاليا التجارة العربية البينية لم تتجاوز رقم الخانة الواحدة)، وبعد ان تكون قاعدتهم الانتاجية هي الصناعة لا الزراعة او ” ما ينضح من ريع”..اما الدعوات بلم شعث الامة والتغني بالامجاد والقاء اللوم على المؤامرات( وكأنها فقط على العرب لوحدهم) فليس الا ” كخض الماء وحرث البحر”… ربما