“فايــزة الزعبــــــي” عـــــرّابة العمــــــل التطوعــــــــــــيّ

سواليف: أسامة الجراح

في نابلس فلسطين، وقبل قرابة الثمانين عاماً ولدت فايزة الزعبي، في بيتِ علمٍ وأدبٍ، عاشت العامين الأولين من طفولتها هناك. تعود أصولها إلى قرية طوباس، والدها خريج الجامعة الأمريكية في بيروت، ترى فيه رجلاً قومياً عربياً، ووطنياً بامتياز، فهو مدّعي عام ثورة عام 1936 في فلسطين، وجدها عميد لآل الزعبي في فلسطين.

بعد سلسلة اعتقالات خضع لها والدها، اشتُرط عليه بعد الاعتقال الأخير الابتعاد عن نابلس والمناطق المحيطة بها، فشد أمتعته ورحل والعائلة إلى يافا، ليفتح تجارة خاصة به في سوق الدير هناك.

انتقال العائلة إلى إربد

عاشت فايزة واخوتها حياة رغيدة في مدينة يافا لكن هذه الحياة لم تدم طويلاً، ففي عام 1948 وعندما بدأ القصف على يافا ومحيطها فرّوا إلى نابلس، ثم ذهبوا بعدها إلى قرية طوباس ليستقروا بها في أملاكهم ومنازلهم هناك، ثم ارتأى والدها الذهاب وعائلته إلى بيروت بعيدًا عن ويلات الحرب والحصار.

وبدأ والدها حينها بتلقّي رسائلَ من أقارب له سكنوا شمال الأردن ناصحين إياه الرحيل إلى هناك، فلبّى الدعوة، وقام باستئجار بيت نجم الدين ناصر وسط إربد، وكان البيت دون المستوى الذي اعتادوه في فلسطين.

تقول الزعبي: “كانت أمي تبكي ما عجبها البيت، وتقول وين بيتنا بيافا ووين هاد”.

ليرد عليها والدها: “والله لأعمرلكم أحسن بيت بس اصبروا علي”.

وبعد قرابة العامين بَنَت العائلة بيتًا يكاد يكون كذلك الذي في يافا، والتحقت الزعبي وشقيقتها بمدرسة كنيسة السبتيين في المرحلة التأسيسية، وانتقلت بعدها إلى مدرسة البنات الوحيدة في إربد آنذاك، لتتلقى فيها تعليمها حتى الخامس ثانوي.

تروي الزعبي موقفًا تستذكره من طفولتها عندما سكنت إربد، فقد كانت قريناتها ينادونها بـ “ابنة الزنقيل” مشيرين إليها بالقول: “هدول البنات زُعبيّات جايات من فلسطين بس زناقيل وابوهم زنقيل”، فذهبت فايزة إلى والدتها تبكي وتشتكي فتيات الحيّ، وعندما عاد والدها مساءً وقصّت له القصة أخد يضحك، قائلاً: “يابا زنقيل يعني معه مصاري مش مسبة يابا”.

التعليم والزواج والأبناء

تقول الزعبي إنَّها كانت من الطالبات النشيطات وإنها سرعان ما نالت ثقة معلماتها، وتم تسليمها مسؤولية صندوق الطالب الفقير الذي يُعنى بتقديم المعونة للطالبات الفقيرات، لتتولى بدورها مهمة جمع التبرعات أسبوعيًا.

أنهت فايزة تعليمها في المدرسة وتقدمت لامتحان المترك عام 1959، وفي آخر يوم تقدّم السيد أحمد بني هاني، الذي كان طالباً في دار المعلمين في بيت حنينا بالقرب من رام الله، لخطبتها وسرعان ما لاقى القبول وتم عقد القران.

فرحت فايزة بعقد قرانها إلا أنَّ “الغصة” في قلبها كانت أنَّها لم تحصل كقريناتها على قبول بدار المعلمات برام الله، ولكن العوض كان أقرب فقد تم تعيينها معلمةً وبمساعدة من خال زوجها المرحوم محمد مطر بني هاني في مدرسة حفصة الإعدادية داخل مدينة إربد على خلاف قريناتها اللواتي عيّن في القرى المحيطة.

أنجبت الزعبي أبناءها بأعوام متتالية لم تسترح بها من “مشقة” الحمل والولادة. فبناتها الثلاثة خريجات جامعة اليرموك، أما رائد الابن الأكبر فهو خريج هندسة من جامعة تشرين في اللاذقية، ومحمد تخرج من جامعة دمشق، ربَّتهم الزعبي كما اعتادت على حب الخير ومساعدة الناس.

فايزة الزعبي والعمل التطوعي

ترى الزعبي أن العمل التطوعيّ من أسمى الأعمال، فقد عملت على تقديم المساعدة لكافة شرائح المجتمع، وبخاصّة الأقل حظاً، إضافة إلى المسنّين والأيتام والمرضى وغيرهم عبر مشاركتها في أنشطة منظمات التنمية المجتمعيّة.

تبرّعت الزعبي وأبناء عمومتها ببيت جدها في نابلس ليكون متحفًا لجامعة النجاح، كما عملت في المجال التربوي لثلاثين عامًا، وخرّجت أجيالاً تفتخر بهم، زرعت فيهم روح العطاء، وعلمتهم أن يمنحوا وقتاً من حياتهم لمساعدة الآخرين.

تقلّدت الزعبي مواقع هامّة استطاعت من خلالها إشباع شغفها بالعمل التطوعي، حتى أسست مؤسسات تُعنى بالخير والعطاء.

كانت معلمتها في الإعدادية نوال حشيشو تؤمن بقدرتها على تقديم الخير للناس ونسّبتها لتكون عضوةً في مبرة الحسين. وفي أول انتخابات للهيئة الإدارية عام 1959 رشّحت نفسها للانتخابات، رغبةً من حشيشو، وكانت أصغر المترشّحين سناً، ولا تزال إلى اليوم عضوًا في المبرة وأمينة سرها منذ 63 عاماً.

تسلَّمت الزعبي إدارة جمعية الأسرة البيضاء عن معلّمتها السوّرية وصفية عبدالقادر بعد وفاتها، ولا تزال رئيسة الجمعية إلى اليوم، وقد قامت والدكتورة هيام شند، المدرّسة في كلية التربية في جامعة اليرموك، بتأسيس ملتقى المرأة للعمل الثقافي 1986، لتتسلم الزعبي إدارة الملتقى بعد وفاة شند عام 1991.

ولا تزال الجمعية قائمة حتى الآن بهمة الزعبي وأبنائها، إذ لم تتلقَّ أي دعم ماليّ من أي جهة أخرى هذا العام، وتعمل على تأسيس نادٍ نهاريّ ومركز صحي في إربد لرعاية كبار السن، ليتمكنوا من ممارسة هواياتهم، كما تقوم بإرسال المسنّين المسجَّلين لديها لأداء مناسك العمرة.

عملت الزعبي في الاتحاد العام للجمعيات الخيرية، مع الحاج سامي الخصاونة، لمدة 35 عامًا نائبًا لرئيس المجلس التنفيذي، فقد كانت أول إمرأة في الشمال تصل لهذا المنصب، حتى صدر قانونٌ يمنع الترشح للمنصب لأكثر من دورتين.

تم تعيينها عضوًا في بلدية إربد الكبرى لثلاث دورات متتالية من عام 1999 إلى 2003، عملت خلالها على تفعيل الحدائق والمكتبات العامة المهمشة، وطالبت بحضانة لأبناء العاملات في بلدية إربد، والتوأمة بين بلدية إربد وبلدية “شينغ شو” الصينية لمدة 19 عاماً.

تقدمت الزعبي باستقالتها من مجلس بلدية إربد لترشح نفسها في الانتخابات النيابية عام 2003، وقالت: “الكوتا النسائية مجحفة بحق النساء في المدن”، والدليل أنّها حصلت حينها على 2900 صوت ولم تنجح مقابل حصول سيدة أخرى في إحدى القرى على 600 صوت وأصبحت عضوًا في مجلس النواب.

“لم يحالفني الحظ ولكن كنت سعيدة بخوض التجربة، فسمو الأميرة بسمة قالت لي: أنت نجحت في قلوبنا جميعا”، تقول الزعبي.

أما في مجال الفنون، ساهمت الزعبي بتأسيس “دار جاليري” للفنون التشكيلية الذي أسسه الفنان محمد الهزايمة بدعمها ومباركتها. توضع صورتها على مدخل الدار التي يستقطب عددًا من الفنانين، تكريماً لها ولدعمها.

ولا تزال فايزة الزعبي تمنح دون مقابل، ولم تبحث يومًا عن المال أو عن تقلد المناصب وإنما كانت تبذل الجهد والوقت والمال من أجل أعمال الخير لوجه الله تعالى ورفعة وطنها، وتقدّم نموذجًا للمرأة الأردنية التي تعمل على النهوض بواقعها المحلي، وتملك رأيًا مستقلّاً نحو قضايا الفقر والتشرد وتحسين أوضاع كبار السن.

سألتها عن القوة والعزيمة التي لا تزال تمتلكهما وهي في عامها الثمانين، وكيف لا تزال حتى اليوم معطاءه وقادرة على بذل المزيد. لم تترد “أمي” كما نادتني أن تحدّثني عن شغفها وعن نظرتها للناس، فهي نذرت نفسها لتخدم الوطن و”إنسان هذا الوطن” لأنها ترى أن العمل التطوعي عمل إنساني قبل أن يكون شغفًا، “وإيمانك بالإنسان وحقه بالعيش بكرامة هو ما يدفعك لأن تعمل بلا كلل، “حتى لو بلغت المئة الثانية من عمرك”.

“انا مريضة قلب ولكن حياتي في العطاء ولا استطيع الجلوس في المنزل لأن الراحة مرض”.

يُطلق عليها محبّوها لقب “سيدة إربد الأولى”، أما الصحافة فقد اختارت لها اسم “سيدة المئوية” بعد تكريمها في مئوية الدولة من قبل جمعية بيت الحكمة لرعاية مرضى السرطان لجهودها خلال الخمسين عامًا الماضية في دعم العمل التطوعي.

حصلت الزعبي على وسام التربية والتعليم من المغفور له الملك الحسين بن طلال، ووسام الاستقلال من جلالة الملك عبدالله الثاني، وعدد من الدورع والشهادات من مؤسسات لا حصر لها.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى