عين مفتوحة.. عين مُغمَضة
فؤاد الجندي
كأنّ #العرب استفاقوا فجأة على مظاهر #التمييز الممارسة ضدّهم من الرجل الأشقر الجريء “أبو عيون زرقا” ، وكأنّهم كانوا بحاجة إلى مقارنة مباشرة بينهم وبين الرجل الأوروبي في ظرف استثنائي واحد ، كان عليهم أن يروا التمييز القذر بين #اللاجئين العرب واللاجئين #الأوكرانيين بشكل مباشر على شاشات التلفزة ، وأن يستمعوا لتصريحات الساسة والإعلاميين من الجهة المقابلة لنا من العالم حول الاختلاف الكبير بين جيرانهم الشقر أصحاب العيون الزرقاء وبين اللاجئين الذين قدموا من سوريا والعراق وأفريقيا قبل سنوات بسيطة ، كان على العرب أن يروا كلّ ذلك بشكله الفجّ الذي ظهر عليه كي يدركوا حقيقة نظرة العالم “الغربيّ” لهم.
إنّ العلاقة المعقّدة التي تربط “شرقنا” الحزين مع الأوروبيين – والتي تمتدّ جذورها التاريخية إلى قرون عديدة خلت – تكشف لنا عن حالات مدّ وجزر تبودلت فيها الأدوار بشكل مثير ، بعد ظهور الإسلام قبل أربعة عشر قرنا اتخذت العلاقة شكلا آيديولوجيا جديدا يضاف لأشكال العلاقة (الصراع) بين “الشرق” وأوروبا ، وربّما ما زال العرب والمسلمون يعيشون على ذكرى تلك الأيّام التي ارتفع بها شأنهم ووصلت فيها جيوشهم إلى وسط أوروبا وهيمنوا فيها على العالم لقرون عديدة إلى أن جرى عليهم ما يجري على كلّ الامبراطوريات من صعود وهبوط ، وأُخرجوا من الأندلس الذي تزامن مع عصر نهضة أوروبا الذي تتوج بالإمبريالية الجديدة في القرن التاسع عشر والقرن العشرين المنصرمين.
عهد الإمبريالية الجديدة بدأ بعد انتهاء الصراع الأوروبي على الأرض الجديدة في الأمريكيتين ، حيث التفت الأوروبيون إلى قارتي آسيا وإفريقيا ، مستغلّين الضعف الشديد والمشاكل الكثيرة التي كانت تعاني منها الخلافة العثمانية ، وانطلقوا في سباق محموم للسيطرة على مناطق شاسعة وحيوية في كلا القارتين ، وكان نصيب العرب أن يكونوا من ضمن هذه المناطق التي اُحتلّت أراضيها وأُنشئت فيها مستعمرات كان في أغلبها لبريطانيا العظمى وفرنسا ، في تلك الفترة أطلق الأوروبيون مصطلحات جيوسياسية تعتمد على اتجاه “الآخر” باعتبار أنّهم مركز العالم ، فكان الشرق الأوسط (بديلا عن تسمية الشرق الأدنى) والشرق الأقصى بحسب قرب أو بعد المسافة ، ومن الملاحظ أنّ مصطلح الشرق فضفاض وغير مرتبط بالاتجاهات الفعلية لأوروبا كقارّة ، فنراه يتّسع لمناطق شمال أفريقيا التي تقع جنوب أوروبا لا شرقها ، ومن الممكن فهم هذا الخلط بين الاتجاهات حال علمنا أنّ مصدر التسمية هو بريطانيا التي كلّ العالم بالنسبة لها شرق.
كانت نظرة الدول الأوروبية الاستعمارية إلى بقيّة العالم نظرة استعلائية ، جرائمهم بسرقة الأطفال الآمنين من إفريقيا و”شحنهم” بطرق غير إنسانية عبر البحار وبيعهم كعبيد ليخدموا الرجل الأبيض في العالم الجديد تشهد على ذلك ، وفي منطقتنا رآها أجدادنا بأفعالهم فترة استعمارهم ونقرأها نحن في أدبياتهم ووثائقهم ، مثلا عبارة الكاتب الإنجليزي روديارد كيبلنغ (١٨٦٥-١٩٣٦) : “سواء كان بغلاً أو حصاناً أو فيلاً أو ثوراً فهو يطيع سائقه” ، تعبّر بشكل واضح عن نظرة المستعمر الأوروبي لهذه الشعوب “الشرقية” ، بالإضافة إلى رواياته الشهيرة كرواية “كتاب الأدغال : ماوغلي” و”كيم” كان كيبلنغ شاعرا ذو شعبية كبيرة ، ولعلّ قصيدته “عبء الرجل الأبيض” التي كتبها في نهاية القرن التاسع عشر تعبّر عن روح بريطانيا الاستعمارية وتظهر أنّ قيادة العالم هي رسالة “عبء” الرجل الأبيض في هذه الحياة.
بشكل أوضح نجد الشعور بتفوّق الرجل الأوروبي عند السياسيين الأوروبيين ، عام ١٨٨٢ كان لورد كرومر الحاكم الفعلي لمصر بعد استعمارها ، يقول كرومر في كتابه الضخم مصر الحديثة : “العقل الشرقي يبغض الدقّة ، وعلى كل إنجليزي يقيم في الهند أن يتذكر ذلك دائما. والافتقار إلى الدقّة صفة يسهل انحطاطها فتتحوّل إلى الكذب ، وهذه هي الصفة المميّزة الرئيسة للعقل الشرقي” ، في كتاب كرومر السابق نقرأ آراء عنصريّة عن العرب والمصريين بشكل خاص.
كرومر لم يكن شخصا منبوذا أو غير مسموع الكلمة ، بل على العكس تماما ، كان بطلا في نظر الساسة البريطانيين لدرجة أنّ بلفور (ما غيره) طالب مجلس العموم البريطاني عام ١٩٠٧ منح كرومر جائزة تقاعد تبلغ خمسين ألف جنيه ، مكافأة له على الخدمات الجليلة التي قام بها في مصر ، هذه الخدمات ابتدأها كرومر بسحق ثورة الوطنيين المصريين التي كانت تحت قيادة أحمد عرابي ، مرورا بسياسة التجهيل عبر رفع رسوم المدارس والتضييق على عمل النساء وانتهاء بحربه على الحجاب ، لورد كرومر أنموذج لعقلية أوروبا الاستعمارية تجاه الآخر ، والآخر هنا هو نحن.
تعمّقت هذه النظرة الاستعلائية والشعور بالتفوّق ولكنّها توارت في خلفيّة العقل الأوروبي الاستعماري وما عادت تظهر بشكل علني خاصّة بعد الأزمة الأخلاقية التي أحدثها صعود الحزب النازي في ألمانيا ونشوب الحرب العالمية الثانية وانحسار هيمنة أوروبا الاستعمارية لصالح القوّة الجديدة ، الولايات المتحدة الأمريكية.
الانحياز “الغربي” كان واضحا طوال القرن العشرين ضدّ كلّ حركات التحرّر الوطنية ، وكان فاضحا في كلّ تفاصيل الصراع حول فلسطين ، وبقي “الغرب” يغضّ الطرف عن كلّ الممارسات غير الإنسانية التي يقوم بها الاحتلال بينما لا يترك مناسبة تمرّ دون إدانة أي عمل مقاوم لأفعال الاحتلال الوحشية ، وعلى الرغم من وجود أصوات حرّة في “الغرب” تناصر قضايانا العادلة ، إلّا أنّها ما زالت أصوات فردية ومُحارَبة من “الغرب” نفسه ، وبقي العقل الجمعي الأوروبي محافظا على شعوره بالتفوّق وبقيت السياسات العامّة لأوروبا الاستعمارية هي هي منذ قرنين ، لكن فقط اختلفت الأدوات.
ربّما كان هذا القرن ومنذ بدايته قد كشف زيف الشعارات البرّاقة التي نادى بها الغرب ، شعارات مثل الديمقراطية تلاشت مع احتلال العراق وتدميره والذي كان فضيحة أخلاقية بامتياز ، والتضييق على المهاجرين والمسلمين في فرنسا جعل الحديث عن الحرّية والعدالة والمساواة نكتة سمجة.
في العشرية الأخيرة كان العالم “الحرّ” – كما يحلو لهم تسمية أنفسهم – على موعد مع اختبار انساني لمخرجات الربيع العربي ، وعمليات استقبال اللاجئين السوريين جعلت هذا العالم على تماسّ مباشر مع مأساة شعب هارب من مأساة حرب طاحنة أكلت وطنهم ، هذا الاختبار ما زال قائما ونتائجه غير مبشّرة.
ولكن يبدو أنّ هذه الشعارات تصلح فقط لشعوب العالم الغربي ولا تصلح لغيرهم ، في رواية جورج أورويل “مزرعة الحيوانات” ، وبعد سيطرتهم على المزرعة ، وضعت الخنازير التي استلمت قيادة المزرعة قواعد (دستور) تنظّم حياة الحيوانات داخل المزرعة ، أحد هذه الشعارات كان : “جميع الحيوانات متساوية” ، لكن الخنازير عدّلت هذا البند فيما بعد فأصبح : “جميع الحيوانات متساوية ، لكن بعضها أكثر مساواة من غيرها”.
إنّ الذي ينظر بعين واحدة إلى جزء واحد من العالم ويغمض عينه عن بقية العالم أعور ، والذي ينادي بمبادئ إنسانية كالحرّية والعدالة والمساواة ولا يطبّقها إلّا على نفسه ويرى الآخرين أنّهم بدرجة أقلّ ولا يستحقّون هذه المبادئ دجّال ، وما بين عينه المفتوحة وعينه العوراء ربّما باستطاعتنا قراءة ثلاثة حروف.