تجديد الخطاب الإسلامي
في كل المراحل التي انتاب الأمة فيها ضعف ، أو أحاقت بها الكروب ، يفزع المخلصون فيها إلى البحث عن سبل الخلاص ، يُغرِّب البعض ويُشرّق ، لكن يعودون دائما إلى العروة الوثقى كمنارة تهديهم .. هي العقيدة التي لا يجدوا في غيرها ملتجأً .
لكنهم عادة ما يختلفون في الكيفية والوسيلة ، بعضهم يعتقدون أن الإستنساخ الدقيق لتعامل الفقهاء الأوائل هو الأسلم ، وآخرون يرون أن ظرفا مختلفا استجد وبالتالي يستوجب فهما جديدا .
لا شك أن الشريعة عالم متكامل يحيط بكل الجزئيات ، وفقه هذه التفصيلات متاح للمجتهد العالم بمقاصد الشريعة وغاياتها ، وسنتعرض في هذه العجالة لنوعين من الفقه : فقه المقاصد وفقه الأولويات لارتباطهما بموضوعنا .
إن فقه المقاصد يتأسس على مبدأ إعتماد الكليات التشريعية وتحكيمها في فهم النصوص الجزئية وتوجيهها ، وينطلق من منهج استقرائي يربط بين الأحكام الجزئية وصياغتها في قانون عام يعتبر مقصدا من مقاصد الشريعة فيتحول الى حاكم على الجزئيات بعد أن كان يستمد وجوده منه ، فهو يشبه القانون العلمي التجريبي الذي يستخلصه الباحث من استقراء لبعض الجزئيات ، ثم يحكم به فيما بعد على كل مشابه آخر .( 1 )
أما فقه الأولويات فهو يتأسس على فهم دقيق لوظيفة التدين الذي هو محاولة لتكييف الواقع البشري مع الوحي الإلهي ، وهو أمر لا يكتمل أبدا بسبب عوامل الضعف الإنساني ، لأن الدين وحي إلهي مكتمل ، لكن التدين فعل بشري يتجه الى الله تعالى دون توقف ولا اكتمال .
لا يختص هذا الفهم برؤية جماعة السنة فقط بل يشمل طائفة الشيعة ، لكن ما حصل من تباعد بين الطرفين يفسره المرجع محمد حسين فضل الله بأنه يعود الى ” أن الفقه الشيعي اتبع الأحاديث الواردة عن أئمة أهل البيت عليهم السلام التي كانت في غالبيتها أجوبة عن أسئلة السائلين في موضوعات جزئية ، وكان الفقهاء يتبعونها من دون التفات الى طبيعتها الموضوعية من حيث كونها حالة طارئة أو ثابتة متجذرة أو ضرورة حياتية أو حاجة شخصية ” ( 2 ) .
يتفق جميع الفقهاء على أن أحكام الدين الأساسية محمولة على متن الآيات المحكمات ، والتي هي أم الكتاب ، أما الآيات المتشابهات فقد نزلت فيها الأحكام الجزئية أو الظرفية أو التأويلية .. أي تلك التي تتعلق بمتغيرات . للتوضيح فإن الأوضاع الثابتة على مر الأزمان وردت فيها أحكام محددة فالعلاقة بين الذكر والأنثى تتمثل بالزواج لتكوين العائلة التي هي عماد البنية الإجتماعية الفطرية للإنسان .. هذه العلاقة لن تتغير مهما تطورت البشرية وتغيرت ظروف الإنسان لذا فقد جاءت الأحكام التي تنظمها ثابتة غير خاضعة للإجتهاد مثل الزواج والطلاق والميراث .. الخ ، فجاءت الآيات المتعلقة دقيقة محكمة شديدة الوضوح .
أما العلاقات المجتمعية فهي محكومة للظروف الزمانية والمكانية ، وتتغير وتتطور حسب حاجة الناس والمصلحة العامة ، مثال عليها : نظام الحكم ، اختيار الإدارات العامة ، التعاملات والعلاقات الدولية .. الخ ، فهي محكومة بأسس وضوابط عامة ضمن هامش محدد لا يخرج عن تلك الأسس لكن لا يقيدها بقالب واحد ، فالأسس المقيدة لسلطة الحاكم هي : الحكم بما أنزل الله ( ومن لم يحكم بما أنزل الله .. ) والعدل ( وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ) والشورى ( وشاورهم في الأمر ) والإصلاح ومنع الفساد ( ولتكن منكم أمة يأمرون بالمعروف .. ) ، وهذه المبادئ الأربعة واجبة الإتباع مهما تغير الزمان والمكان ولجميع درجات الإدارة ، لكن أسس اختيار الحاكم والأسلوب والكيفية ومدة الحكم وتفصيلات الهيئات الحاكمة وصلاحياتها واستبدالها ومراقبة أدائها … الخ ، كلها أمور متاحة للإجتهاد وحسب ما يستجد من عوامل ومتغيرات .
هنالك ثلاثة عناصر يتداخل فيها فقه المقاصد والأولويات ، وتحتاج الى تفصيل ، لكن المقام لا يتسع ، فسأشير إليها سريعا ، وهي طبيعة النظام السياسي وعلاقة الحاكم بالمحكوم والمواطنه .
لما كانت السنة مكملة تشريعيا وتفسيريا للقرآن الكريم ، وهي تطبيق حي لفقه المقاصد والأولويات ، لذا فإن في إغفال النبي الكريم ( ص ) لتسمية من سيخلفه هو أمر تشريعي قطعي بأن الإختيار متاح للأمة ، وأسلوب الخيار مفتوح أيضا ، لكن يراعى الضوابط الأربعة التي أسلفنا ، أما علاقة الحاكم بالشعب فهي التي تمثلت بشعار تلاميذه ” أطيعوني ما أطعت الله فيكم ” أي أن الحاكم غير مفروض وليس خليفة الله في الأرض وهو قابل للإستبدال إذا ما أخل بأي من تلك الضوابط ، أما المواطنة فهي حق الرعية على الراعي من حيث السهر على راحتهم بلا تمييز بين المسلم وغير المسلم وفي جميع الحقوق وبالتساوي ، والدليل في ذلك عندما اكتشف عمر الفاروق أن يهوديا كهلا يتسول ، فقال له ما أنصفناك وأمر له بمثل ما يعطى للمسلم ، وبما نسميه الآن الضمان الإجتماعي .
الخلاصة : أن الخطاب الإسلامي يجب أن يتغير لغة ليواكب مصطلحات اليوم ، وشرحا لإزالة اللبس الذي ألحقه المتشددون الإستنساخيون به فجعلوه أشبه ما يكون بالتراث الذي يصلح للعرض بالمتاحف ، فيما هو متطور دائم الحيوية ، وقيّم كالذهب يزداد قيمة مع الأيام وعند المحن .
1 – مجلة قضايا إسلامية معاصرة – العدد 8 / 1999 – طه جابر العلواني 2 – المصدر السابق : ص 11 .
– للإطلاع على المزيد من انتاج الكاتب يرجى الدخول على صفحته على الفيس بوك : صفحة الدكتور هاشم غرايبه